# 📜 هكذا تألّق جيل الصّحابة ## فهرس المحاضرة - ظاهرة عدم انبهار الصّحابة بالحضارات المتقدّمة. - لماذا لم ينبهر الصّحابة بالحضارات الأخرى برغم أن هذا الانبهار طبيعي ووقع في مختلف الأزمنة؟ - نماذج تطبيقية من الصّحابة على التّسليم الكامل. - نموذج أبي بكر الصّديق <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span>. - نموذج [[عائشة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">J</span>. - نموذج معقل بن يسار <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span>. - نموذج تفاعل الصّحابة مع مُزاح النبي ﷺ. - نماذج من المجتمع الإسلامي. - مولدات هذه الصفات الإيمانيّة لدى الصّحابة. 1. موقف الإسراء والمعراج 2. موقف تحويل القبلة 3. حادثة صُلح الحديبية - لمحة على الحادثة. - بعض الفوائد التي حصلت مِن صلح الحديبية على الإسلام. - تأثير حادثة صلح الحديبية على تسليم الصحابة. - خلاصة: ما يترتب على التّسليم التّام لله تعالى <div style="page-break-after: always;"></div> ## ظاهرة عدم انبهار الصّحابة بالحضارات المتقدّمة من أكثر المشاهد إبهارًا في جيل الصحابة: هو **عدم انبهارهم ببريق حضارتيّ الفُرس والرُّوم** عند تكشُّفها لهُم برغم التقدم الشديد لهاتين الحضارتين في زمنهم. ونرى مثال هذا في قصة دخول [[ربعي بن عامر]] -بثيابه المرقّعة- على رُستم مَلك فارس -الذي كان بأفضل مجالسه-، وعندما سأل رُستم ربعيَّ بن عامر عن سبب خروج العرب من جزيرة العرب إليهم، قال ربعيّ: (إن الله ابتعثنا لنُخرج العِباد من عبادة العِباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدُّنيا والآخرة). فلم يتأثّر الصّحابي الجليل بعظمة مُلك رُستم بل أجابه بعزّة وثبات. وكان هذا موقفًا من مواقفٍ كثيرة جدًا للصّحابة تُظهر المعنى نفسه. ومشاهدة هذه المواقف دفعت الشيخ للبحث عن سبب وكيفية وصول الصّحابة لهذا الحال الذي يمنعهم من الذوبان في الحضارات الأكثر تقدمًا وغنىً. ومما زاد اهتمامه بهذه النّاحية رؤيته لشباب المسلمين المُنبهرين بالحضارة الغربية في أيامنا الحاليّة، والذين يخجلون بمنظومتهم العقدية والدينية الشرعيّة، بل ويتقبلون إيقاع تغييرات عليها لتوائم متطلبات الحضارة الغربية. > [!info] فائدة > ظاهرة تقليد الحضارات المتقدّمة، والذوبان بِها، وتقبّل أهل الحضارات المتأخرة عنها لتغيير منظوماتهم العقديّة؛ هي ظاهرة طبيعية عند البشر، حدثت وتحدث في كُلّ زمان ومكان، حتّى أن الحضارات الأخرى انبهرت بالمسلمين عندما كان المُسلمون في القمّة، فوقع تقبّل التغيير -حتى في العقائد- لدى الحضارات الأخرى لانبهارهم بالحضارة الإسلاميّة. > > ومن أمثلة هذا مُناظرة [[ابن تيمية]] و[[ابن القيم]] لأحد عُلماء أهل الكِتاب الذي أقرّ بأنّهم يؤمنون بنبوّة محمد ﷺ‎ وأن اتِّباعه واجب على المسلمين، لكنّ الاختلاف بيننا وبينهم أنّهم لا يرون أنه بُعث للناس كافّة بل هو مبعوث للعرب فقط، ولأهل الكتاب أنبياؤهم الذين يتّبعونهم. ففي هذا المثال نرى أنّ أهل الكتاب الذين كانوا لا يعترفون بنبوّة محمد ﷺ‎ بداية الأمر قد أظهروا في ذلك الزمان تقبّلاً لها -وهذا تغيير عقديّ منهم-؛ وهذا بسبب رؤيتهم لعظمة الأمّة في ذلك الزمان وتفوّقها الحضاري. ونرى أنّهم في زماننا الحالي قد عادوا لعدم الاعتراف بنبوته ﷺ؛ وسبب هذا التغيير هو تغيّر موازين القوى مرّة أخرى. <div style="page-break-after: always;"></div> ### لماذا لم ينبهر الصّحابة بالحضارات الأخرى برغم أن هذا الانبهار طبيعي ووقع في مختلف الأزمنة؟ وجواب هذا السؤال هو أنّ **المعنى الإيماني العميق** الموجود لدى أصحاب النبي ﷺ‎ هو ما حصّنهم من الانبهار والافتتان بالحضارات الأخرى. وما يُعبر عن المستوى الإيماني عندهم: اعتزازهم، وانقيادهم، وخضوعهم، وتسليمهم للوحي. فهُم يرون أنّ الله قد أرسل لهم رسوله، وأن الرسول ﷺ‎ قد بيّن لهم أوامر الله ﷻ، وأنّ مهمتهم هي التسليم لهذه الأوامر‎. وهذه الرؤية تؤدي إلى الإيمان العميق الذي يمنع القلب من الانقياد وراء بريق الحضارات الأخرى وبريق الدنيا كُلّها. --- ## نماذج تطبيقية من الصّحابة على التّسليم الكامل ### نموذج [[أبي بكر]] الصّديق <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span> بعد ليلة الإسراء والمعراج، وعندما أخبر النبيّ قريشًا بوقوع هذا الحدث العظيم، وقع منهم التكذيب الشديد والسُّخرية من هذا الخبر الذي يصعب تصديقه. فأسرع بعضهم إلى [[أبي بكر]] ليخبره بما قال نبيّه، فكان جواب [[أبي بكر]] لهم: (لَإِن كان قالَه، لقد صدق)، وهذه المقولة تعبّر عن منهج أهل السّنة والجماعة في التّعاطي مع النّص الشرعي، وهو أنّ الإنسان إذا ثبت له قول الله وقول رسوله ﷺ‎ فإنه يُسلّم له مُباشرة سواءٌ أكان عقلُه يُدركه أمْ لا. وعندما استغرب النّاس تصديق [[أبا بكر]] للرسول ﷺ‎ في هذا الخبر العجيب، قال لهم: (إنّي لأصدّقه بأعظم من ذلك، أصدّقه بخبر السّماء يأتي في لحظة)، وهذه المقولة تعلّمنا أن الإيمان الحقيقي ليس إيمانًا أعمى بل أنّه مبني على أسس: فهو صدّقه بأنه رسول من الله تعالى، وهذا يعني أنه معصوم عن دخول الخلل في ما يُخبر به؛ فبالتّالي فإن هذا الإيمان التّام هو إيمان مرتكز على العقل، وليس إيمانًا واتّباعًا أعمى. > [!info] فائدة > لا يُمكن للإنسان باجتهاده الوصول لأعلى المقامات البشرية وهو مقام النبوّة لأنه مقام اصطفاء من الله تعالى، ولكن يجتهد الإنسان للوصول لمقام **الصّديقيّة**: وهي الرتبة التالية لرتبة النبوّة، وطريق الوصول للصديقيّة يكون بالتسليم التّام لله تعالى. <div style="page-break-after: always;"></div> ### نموذج [[عائشة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">J</span> أتى الرّسول عائشة <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">J</span> بأسير، وطلب منها أن تراقبه لكي لا يهرب، وخرج النبي ﷺ‎، فدخلت إليها مجموعة من النّسوة، وأثناء حديثها معهم هرب الأسير. فعندما جاء الرسول ﷺ‎ سألها عن الأسير، فقالت أنها انشغلت عنه مع النسوة؛ فهرب، فغضب الرسول ﷺ‎ وقال لها: "ما لَكِ؟ قَطع الله يدَك" وخرج، ثم أعاد الناس الأسير الهارب. فلمّا عاد الرسول ﷺ‎ إليها وجدها تقلّب يديها، فقال لها: (ما لَكِ، أجُننت؟) فقالت له أنّه دعا عليها فهي تنتظر أن ترى أيّ يديها ستقطع. فدعى الرسول ﷺ‎ قائلاً: (اللهم إنّي بشر، أغضب كما يغضب البشر، فأيّما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه، فاجعله له زكاةً وطهورًا). والشاهد في هذه القصّة أن [[عائشة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">J</span> صدّقت وآمنت بأنّ إحدى يديها ستُقطع لدعاء النبي ﷺ‎ (ولو بدون سبب ماديّ)، فكانت تنتظر انقطاعها بتسليم ولم تختبئ أو تُخبّئ يديها خوفًا من القطع بل علمَت أنّه أمر واقع، حتّى دعا النبي ﷺ‎ أن يجعل دعاءه لها لا عليها. ### نموذج [[معقل بن يسار]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span> زوّج [[معقل بن يسار]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span> أخته لرجل، فطلّقها هذا الرّجل طلقة واحدة لم يراجعها فيها حتى انقَضَت عِدّتها. ثمّ أراد الرّجل العودة لها وأرادت هي العودة له، فتقدّم لخطبتها، فرفَض [[معقل بن يسار]] رجعته رفضًا قاطعًا، وقال: (يا لُكع، زوّجتك بها وأكرمتُك، ثمّ طلَّقتَها، والله لا ترجع أبدًا آخر ما عليك). فنزلت آية: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِالۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَاللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ [[البقرة-232|۝]]</span>﴾، فقال [[معقل بن يسار]]: (سمعًا لربّي وطاعة)، فدعى الرّجلَ إليه وزوّجه أخته وأكرمه! فتخلّى [[معقل بن يسار]] عن كُل ما به من بُغض لهذا الرّجل، وعن كُل أعراف المُجتمع، وانصاع مُباشرة لأمر الله. ولم يقُل مثلاً أنه لو عاد الرّجل لزوجته، بل هو من دعاه إليه وزوّجه! وهذه صورة التّسليم الكامل. <div style="page-break-after: always;"></div> ### نموذج تفاعل الصّحابة مع مُزاح النبي ﷺ‎ أتت عجوز النبي ﷺ وطلبت منه أن يدعو الله أن يدخلها الجنّة، فقال لها النبي ﷺ‎: (ارجعي، فإنّ الجنّة لا يدخلها عجوز). فبكت العجوز. ثمّ بيّن النبي ﷺ‎ حقيقة الأمر، فقال: (أخبروها بأنّها لا تدخُلها يومئذ وهي عجوز. ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ [[الواقعة-35|۝]] فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا [[الواقعة-36|۝]]</span>﴾) والعجيب في هذا الموقف أن العجوز عندما قال لها النبي ﷺ‎ أن ترجع وأن الجنّة لا يدخلها عجوز لم يطرأ منها أيّ اعتراض أو شكوى أو شُبهة. بل كان بكاؤها دليل تسليمٍ كامل وتصديقٍ مُباشَر لِقول النبي ﷺ‎. > [!info] فائدة > هذا الموقف وقع من عجوز لا نعرف اسمها، فليست من أعلام الصّحابة المشهورين <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">M</span>، وهذا يدلّ على أن هذا التّسليم كان سائدًا بين عموم الصّحابة <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">M</span>، وليس أمرًا خاصًّا بكِبار الصّحابة. ### نماذج من المجتمع الإسلامي - عندما نزلت آيات تحريم الخمر؛ استجاب كامل مُجتمع الصحابة وانتهوا عن شُرب الخمر مباشرة، ونذكر هُنا مركزيّة وكثرة انتشار الخمر لدى العرب وحتّى بين الصّحابة قبل تحريمه في تلك الأيام، ومع ذلك استجاب الصّحابة مُباشرة لأمر الله عز وجلّ وسُكب الخمر في شوارع المدينة. - وعندما نزلت آيات فرض الحِجاب؛ استجابت الصّحابيّات فَور بلوغِهِنّ الخبر، دون اعتراض أو سؤال عن سبب التّشريع. - عندما ذكرَ الرّسول ﷺ‎ صفات الدّجال العجيبة، وخاصّة في مسألة أنه سيأتي على النّاس عِند قدومه يوم يكون كسَنَة؛ لم يسأل أو يستنكر أحدٌ من الصّحابة هذه الأخبار رغم شدّة غرابتها، بل كان السّؤال الوحيد الذي طُرح يدلّ على تمام التّسليم والتّصديق بالمعلومة. فسأل أحد الصّحابة عن ما يُهمّه عندما يكون طول اليوم كسنة؛ فسأل إن كانت تكفيهم صلاة يوم في هذا اليوم الطويل. --- <div style="page-break-after: always;"></div> ## مولدات هذه الصفات الإيمانيّة لدى الصّحابة إن أهمّ سبب يستشفّه المتمعّن في السّيرة النبوية لوجود هذا الإيمان والتسليم العميقين لدى الصحابة هو تربية النبي ﷺ‎ لهم على هذه المعاني. ومن هذا نفهم أننا لا يُمكن أن نُطالب أجيالنا في هذا الزمن بتحقيق هذه المستويات من التسليم والخضوع لأوامر الوحي دون أن تسبق ذلك تربية عميقة لهم على هذا التّسليم. وسنعدد ثلاثة أمثلة على هذه التربية النبوية لأصحابه على معاني التّسليم الكُلّي: ### 1. موقف الإسراء والمعراج قال المفسّرون في قول الله تعالى ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">...وَمَا جَعَلۡنَا الرُّءۡيَا الَّتِيٓ أَرَيۡنَٰكَ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلنَّاسِ... [[الإسراء-60|۝]]</span>﴾ أن المقصود من هذه الرؤيا هو ما رآه النبي ﷺ‎ في ليلة الإسراء والمعراج من الآيات الكبرى. فكما أسلفنا في نموذج [[أبي بكر]] رضي الله عنه؛ كان هذا الحدث فتنة للكثيرين ممن لم يُصدّقوا بهذا الخبر العظيم، بينما بلغ آخرون ك[[أبي بكر]] ذروة التّسليم والإيمان بتصديقه لهذا الخبر. ### 2. موقف تحويل القبلة ذُكر في سورة البقرة (من الآية 142 إلى الآية 150) أمر الله تعالى للنبيّ والأمّة بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. ويلاحِظ المُتأمل في كتاب الله؛ أنّ هذا الأمر الإلهي فُصِّل تفصيلاً طويلاً في الآيات المذكورة، برغم أنّه قد يبدو لنا يسيرًا ولا يحتاج لكلّ هذا التثبيت والتكرار والتّوضيح لجوانبه. ولكنّ سبب كُلّ هذا التفصيل القرآني في هذا الأمر هو أنّ هذه كانت أوّل مرّة يُنسخ فيها حُكم شرعيّ. فكان لهذا النّسخ وقع صعب على المؤمنين لعدَم استيعابهم مبدأ النّسخ ودواعيه والشُّبهات التي قد تحدث بسببه. فجاء هذا الأمر مفصلًا مجيبًا عمّا قد يخطر على بالهم من أسئلة ومؤكدًا على أهمية التّسليم والاستجابة. ونرى أنّ هذه التربية علّمت الصّحابة التسليم التّام؛ فعندما جاء أمر تحريم الخمر لاحقًا؛ استجاب الصّحابة استجابةً فوريّة، لعلمهم بأهميّة التسليم ولأن أمر النّسخ لم يعد مُستغربًا. <div style="page-break-after: always;"></div> ### 3. حادثة صُلح الحديبية #### لمحة على الحادثة كان شوق الصّحابة لمكّة كبيرًا، وكان النبي ﷺ‎ قد رأى في المنام بشرى بأنّهم سيدخلون مكة معتمرين، وخرج النبي ﷺ‎ وأصحابه قاصدين مكّة، وهنا تبدأ حرب الأعصاب: فتقدّم جيش [[خالد بن الوليد]] لاعتراض هذه الرّحلة، فتشاور الصّحابة بما يجب عليهم فعله، وأشار [[أبو بكر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span> بأنّهم ما أرادوا الحرب وإنّما أرادوا العمرة، فانحرف النبي ﷺ‎ بالجيش إلى طريق آخر حتى وصلوا الحديبية وتوقّفت راحلته. وبدأت المفاوضات والمراسلات بين النبي ﷺ‎ وبين كفار قريش، وحدثت مناوشات بين المسلمين وقريش، ووقع تبادل للأسرى. ولنا أن نتخيّل ارتفاع منسوب التوتّر لدى الصّحابة مع كُل حدث من هذه الأحداث. ثم أرسل النبي ﷺ‎ [[عثمان بن عفان]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> لمفاوضة قريش، وطالت مفاوضاته معهم، فانتشرت شائعةٌ بأنّ قريش قد قتلت [[عثمان]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span>. فاجتمع الرّسول ﷺ‎ بصحابته تحت شجرة الرّضوان وبايعهم الرسول ﷺ على الصّبر والموت وألّا يفرّ أحد. وهنا نستشعر أن الصحابة قد وصلوا ليقين بدخولهم مكّة إما محاربين أو معتمرين. وعندما بلغت هذه الشائعة قريشًا أعادوا [[عثمان]]‎ وأرسلوا معه [[سهيل بن عمرو]] ليُفاوض النبي ﷺ‎. وعندما جاء [[سهيل بن عمرو]] ليفاوض النبي ﷺ‎ قال للصحابة: "سَهُل عليكم أمركم"، فاستبشروا بأن العُمرة ستتم. ثم بدأت المفاوضات واتّفق الجميع على أُسس الاتفاقيّة، وبدأ النبي ﷺ يُملي‎ بُنود الصّلح على [[علي بن أبي طالب]] ليكتُبها. وكانت قريش تمانع في كلّ بند لتعديله مما كان يزيد من توتر الصّحابة رضوان الله عليهم. حتّى وصلوا لبند سماح قريش للمسلمين بأداء العُمرة، فطالب [[سهيل بن عمرو]] بتأجيل العمرة، مع أن النبي ﷺ‎ وأصحابه على مشارف مكّة وهذا الأمر لم يكن مطروحًا خلال كُلّ هذه الاحداث، وتأتي المفاجأة والصدمة للصحابة بأمر النبي ﷺ‎ عليًّا بكتابة البند كما طلب [[سهيل بن عمرو]]. ومما زاد حجم وثقل الأحداث أكثر هروب الصحابي [[أبو جندل]] الذي كان يُعذَّب في مكة عذابًا شديدًا ووصوله لجيش المسلمين. وبهذه اللحظة التي ابتهج فيها الصحابة وابتهج فيها [[أبو جندل]] لهذا اللقاء، طلب [[سهيل بن عمرو]] بإعادة [[أبو جندل]] إلى قريش مع أن بند إعادة مَن يُسلِم مِن قريش لم يكن معقودًا بعد، وذهبَ [[سهيل بن عمرو]] إلى [[أبي جندل]] وأمسكه من تلابيبه ولطمه على مرأى من الجميع مما استفزّ الصّحابة كثيرًا. وحاول النّبي ﷺ‎ تغيير رأي [[سهيل بن عمرو]] بقوله أنّ العقد لم يُكتب بعد وطلب منه ترك [[أبا جندل]] بعدّة طرق متوددًا له، ولكن [[سهيل بن عمرو]] قال: لا أفعل، إذاً لا صُلح بيننا! ثم تمّ إرجاع [[أبي جندل]] لقريش، وتمّ التعاقد بالبنود كما عدّل عليها [[سهيل بن عمرو]]. وكان الصحابة في حالة ذهول تام. وتتجلى صورة هذه المشاعر بموقف [[عمر بن الخطاب]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span> إذ ذهب إلى النبي ﷺ‎ وقال له: (ألسنا على حق؟).. (أليسوا على باطل؟).. (فلم نُعطِ الدّنيّة في ديننا؟). فقال له النبي ﷺ‎: (إني رسول الله، وإنه ناصري، وإنّي لا أعصيه)، فقال [[عمر]]: (ألم تعدنا بأننا سنعتمر)، فأجابه النبي ﷺ‎: (أقلتُ لكّ أنك تعتمر في عامك هذا؟). ولصعوبة ووقع هذه الأحداث على [[عمر]] ذهب إلى [[أبي بكر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span>، فقال له كما قال للنبي ﷺ‎: (ألسنا على حق؟).. (أليسوا على باطل؟).. (فلم نُعطِ الدّنيّة في ديننا؟). فقال له [[أبو بكر]] كما قال النّبي ﷺ‎: (إنه رسول الله، وإنّه لا يعصيه، وإنّ الله ناصره، فاستمسك بغرزه). وهُنا نرى صدّيقيّة وتسليم [[أبا بكر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span>، فقد أجاب بنفس إجابات النبي ﷺ‎ دون تحضير مسبق بينهما. ثم أمَرَ النبي ﷺ‎ أصحابه بأن يحلِقوا رؤوسهم ويذبحوا الهدي، فلم يتحرّك أحدٌ منهم! حتّى خرج النبي ﷺ‎ وحلق شعره وذبح هديه، فبدأ بعضهم يحلق لبعضٍ وكاد بعضهم يقتُل بعضًا من الهمّ! #### بعض الفوائد التي حصلت مِن صلح الحديبية على الإسلام - عدد الداخلين في الإسلام منذ صلح الحديبية حتى فتح مكّة كان أكثر من عدد الداخلين في الإسلام منذ بعثة النبي ﷺ‎ حتى صلح الحديبية. - عُدّ صلح الحديبية اعترافًا رسميًا من معسكر قريش بوجود معسكر المسلمين. - بسبب صلح الحديبية وُجد المبرر القانوني لفتح مكّة (عندما نقض الكفار العهد). - بسبب منع النّبي ﷺ‎ مِن قَبول المسلمين القادمين من مكّة، قام هؤلاء المسلمون بتشكيل معسكر منفصل خارج المدينة، وصاروا يُغيرون على قوافل قريش؛ فطلبت قريش مِن النّبي ﷺ‎ ضمّهم إلى مسلمي المدينة ليأمَنوهم. #### تأثير حادثة صلح الحديبية على تسليم الصحابة بعد تكشّف فوائد صلح الحديبية للصحابة، علِموا أنهم أخطؤوا بِتَبدِيَتِهم رأيَهم على ما جاءهُم مِن الوحي. وتظهر هذه الفكرة واضحة في قول الصّحابي [[سهل بن حنيف]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span> ناصِحًا التّابعين في يوم الجَمَل، فقال: (يا معشر التّابعين اتّهموا الرأي، فلقد رأيتُني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردّ على الّنبي ﷺ‎ أمرَه، لرددته!). أي أنّه علينا تقديم الوحي على الرأي عندما يتعارضان. فقد رأى الصّحابي الجليل أنهم يوم الحديبية كان للصّحابة رأيُهم الذي ظنّوا صحته، فما تقبّلوا ما جاء في الوحي، وكان في الوحي الخير كلّه! وهُنا نرى مدى تعلُّم الصّحابة التّسليم لأمر الله من هذه الواقعة العظيمة. --- <div style="page-break-after: always;"></div> ## خلاصة: ما يترتب على التّسليم التّام لله تعالى كان للصحابي [[أبو رافع]] قدرًا يطبخ فيه شاة، فمرّ عليه النبي ﷺ‎ وسأله عن ما في القِدر، فأجابه أنّها شاةٌ أُهديت لهُم، فقال الرسول ﷺ‎: (ناولني الذراع يا أبا رافع)، فأخرج له ذراعها وقدّمها له، فأكلها النبي ﷺ‎ ثم قال له‎: (ناولني الذراع الآخر)، فقدم له الذراع الآخر فأكله ثم قال له‎ مرة أخرى: (ناولني الذراع الآخر)، فقال له [[أبو رافع]] متعجبًا: (إنّما للشّاة ذراعين يا رسول الله!)، فقال له النبي ﷺ‎: (لو سكتَّ يا أبا رافع لناولتني ذراعًا بعد ذراعٍ ما سكتَّ). بمعنى أنه لو استطاع الوصول لهذا المقام الإيماني والتغلّب على التفكير المادّي لوجد في القدر ذراعًا آخر. ومِن هذا نفهم أنه مع هذه المقامات الإيمانية الرّفيعة ومع التّسليم التّام تحصل بركات إلهية، فتَقِلّ قيمة الأمور الماديّة عندما نُسلِّم لأمر الوحي بيقين تام.