# إلباس العجز جبّة الحكمة
من أعظم الأبواب التي حيرت عقول العُلماء والدُّعاة هو باب **العلاقة بين شُعب الإيمان**. فتنافس أهل الإسلام في تعديد هذه الأبواب، كُلّ بحسب قُدراته وعِلمه. وبلغ كتاب [[البيهقي]] في شعب الإيمان بضعة عشر مجلدًا. وللتفاوت بين كثرة شُعب الإيمان، ومحدودية القدرات البشرية، قد يفقد المرء مقياسه الذي يقيس فيه أهدافه. فكثيرٌ من تدفعه حماسته ليضع أهدافًا لا يستطيع بمُعطيات واقعه تحقيقها. فيتخبط بين العلوم ويتيه بين الآمال الضائعة. ومن أسوأ ما قد يستجيب له الفرد لهذه العثرات هي استجابة يُمكن تسميتها: (إلباس العجز جُبّة الحكمة). ولهذه الاستجابة أشكال متعددة في نواحٍ مختلفة من الحياة، منها:
## في حفظ العلم
يتناسى من صَعِب عليه حفظ العلم في صدره -سواء أكان ما أراد حفظه القُرآن الكريم أو أيّ من أبوب العلم- فضائل حفظ العِلم الواردة في القرآن والسُنّة، ويبدأ بتخذيل من حوله عن حفظ العلم وابتكار الحُجج الواهية للحث على تجنّب الحفظ والتّزهيد به (كتوجيه الجُهد نحو الفهم، وكأنّ الحفظ يُنافي الفهم!).
من أسباب حصول سوء الفهم في مسألة حفظ العلم أنّ الكثيرين **يظنّون أن حفظ العلم يتمثّل بحفظ المُتون فقط**، ولكن حفظ العلم أوسع من ذلك يشمل كل عناصر العلم، ومما يدخل فيه: حفظ ألفاظ القُرآن والحديث، وأسماء الأعلام ووفياتهم، ومعاني اللغة والتعريفات، وأشهر الأقوال في المسألة، والتسلسل التاريخي للمذاهب والبدع، ومواطن المسائل ومظانها، وحفظ الموضوعات التي تعرض لها كل كتاب مهم في بابه.
كما أن من أسباب حصول سوء الفهم **اعتقاد البعض أنّ الحفظ إنّما يكون بتكرار اللفظ**، وهذا وإن كان أداةً من أدوات الحفظ، إلّا أنه ليس الطّريقة الوحيدة. فكلّ شكل من أشكال [[معاناة العلم]] هو وسيلة للحفظ؛ كالنّظر فيه وتقليبه وتأمّله وتدبّره شرحاً وتلخيصاً وتحقيقاً... إلخ. ومُعاناة العِلم تُثمر الخبرة فيه.
## في سعة الاطلاع
ومن شُعب العلم (التبحّر) وسعة الاطّلاع والتعمق في المطوّلات وثراء المقروءات. وهذا يفتح باب التشعّب في العلم والتنقل من كتاب لكتاب. ولكثرة اقتناء الكُتب فوائد منها أنها تُفيد الكاتب بتوفير مصادر للنقول عند الكتابة. كما أنّها تفتح لطالب العلم باب المقارنة بين المصادر: وهي أفضل طريقة للتحقيق في المسائل.
> [!info] فائدة
> من أعظم ثمرات المقارنة بين المصادر هي أن يتمكّن المرء من فرز الحقائق العلمية عن آراء الكاتب: فعند القراءة قد نظنّ أن بعض ما في الكتاب هو معلومة بينما هو مجرد رأي أو استنتاج للكاتب، وهذا اللَّبس يُكشف بقراءة مصدر آخر.
وهُنا يجدر التّفريق بين اقتناء الكتب للاستفادة من تعدد المصادر وبين هَوَس اقتناء الكُتب. فالكثير من المبتدئين في طلب العلم يُخطئ بشراء الكثير من الكتب دون قراءتها، مما يدفعه لاحقاً للتهرب من مواجهة عجزه وخطئه، بل و**يُلقي عباءة الحكمة على عجزه**: فيذمّ ويحذّر من اقتناء الكُتب ومطاردة المصادر.
فالواجب الموازنة بين اقتناء ما يحتاجه الإنسان من الكُتب وبين المُكاثرة في اقتناء الكُتب دون الاستفادة منها. فعلينا الاستفادة من الانفجار المعرفي في عصرنا بكثرة الاطلاع بدلاً من التزهيد فيه.
> [!tip] هام
> كما أن هناك من يختلق وجود التضاد بين حِفظ العلم وفَهمه، فإن هُناك من يفتعل التّصادم بين حِفظ العلم وسعة الاطّلاع. وكِلتا المفارقتين خاطئتان.
## في فقه مسائل التراث وفقه النّوازل
يقع بعض من يعجزون في التفقّه في المسائل الفقهية المستجدّة بنفس الخطأ؛ فعند عجزهم يبدؤون بتثبيط من حولهم وتزهيدهم في هذه الأبواب. وكذلك الأمر فيمن أعيته صعوبة لغة كتب فقه المسائل التّراثية وطول شرحها، فبدلاً من اعترافِهم بعجزهم يبدؤون بالتّهكم بمن يجتهد في فهمها وإعادة إنتاجها. والحقيقة أن كِلا البابين مِن شُعب العلم العظيمة في الفقه.
## في الثقافة المُعاصرة
إنّ العلم الشرعي غذاء، والثقافة المُعاصرة وعاء. والثقافة المعاصرة من أهم وسائل الدعوة اليوم. والعالِم قليل الثقافة قد يقلّ تأثيره في أرض الواقع. فالصحيح أن نجمع بين العلم والثقافة، فلا نفرّط في أي باب منهما. فلا يُتصوّر أن تقوم دعوة دون علم بكلام الله ورسوله ومعانيهما، وكذلك لا تقوم دعوة دون فَهم لطريقة تشكّل العُقول في العصر الحاليّ وما يشغل تفكيرها.
وكان حال السّلف كـ[[ابن تيمية]] أنهم بعد تعلمهم العُلوم الشّرعية، يطّلعون على الثقافة المُعاصرة وينقدونها.
فالجمع بين العلم الشرعيّ والثقافة المُعاصرة عُملة نادرة، ومطلب صعب يحتاج لمَلَكات خاصّة كسُرعة الإدراك. ويخطئ في هذا الباب \_كما في الأبواب السابقة\_ من يَضعُف عن الجمع بين العلم والثّقافة؛ فيبدأ بتزهيد الآخرين في الجمع بينهما. والصحيح أن تشجيع من تمكّن من الجمع والدّعوة للجمع الصحيح بينهما: العلم أولاً ثم الثقافة بحسب الطّاقة والإمكان.
## في الصدع بالحق
من يصدع بالحقّ يتحمل ما يترتب على هذا من ابتلاء، ويرتبط النهي عن المُنكر بالصبر في قوله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">... وَأۡمُرۡ بِالۡمَعۡرُوفِ وَانۡهَ عَنِ الۡمُنكَرِ وَاصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ ...[[لقمان-17|]]</span>﴾. فعندما يصدعُ ناهٍ عن المُنكر بأمر الله، يرى البعض أنّهم يعجزون عن تحمّل تبعات ذلك كما تحملها هو، فيُلبسون عجزهم جبّة الحِكمة وبُعد النّظر، ويُنظّرون على الصّادعين بمخاطر التّهور والتعجّل وقلة الوعي والعاطفة.
## في نصرة المُجاهدين
من أعظم شُعب الإيمان نُصرة المُجاهدين في سبيل الله، المُلتزمين بالضوابط الشرعية، والمبتعدين عن الغلو.
ومن يعجز عن هذه النّصرة عليه أنْ يفهم عجزه وقلّة حيلته، وأن يعمل بما يستطيعه ولو بمجرّد الدّعاء لهم ومحبتّهم، وألّا يُلبس عجزه عمامة الحكمة بالطعن في من حمل همّ رفع كلمة لا إله إلا الله.