# جسر التعب
## نقص العزيمة
عندما نخطط لمستقبلنا (الدنيوي أو الأُخروي) فإننا نرسم أحلاماً كبيرة بعيدة، ولكننا لا نبذل لها ما تستحقه من المُكابدة والصبر. ولكن الشرع أكد لنا أن معالي الأمور كالرسوخ بالعلم وإظهار الهدى ودين الحق والتمكين في الأرض وإصلاح الأمة لا تحصل للمرء وهو مستكمل راحته وطعامه وشرابه ونومه وأوقات استرخائه. ولا ننسى كذلك أهمية الجديّة في تناول معالي الأمور، فمُحاولة تحقيق النجاحات في بيئة يغلب عليها ضجيج اللهو وخفة المرح وقهقهات الفكاهة.
**فَتَرْك فضول النوم والطعام والشراب والترفيه والخلطة والحديث والكلام والنظر؛ هو أول خطوة لفتح باب الانطلاق في درب المعالي.**
ونرى حولنا الكثيرين مِمّن اجتمعت لديهم شُعبٌ من الخير والإنجاز والإنتاج، ولكنهم لا يملكون [[العزيمة]] ليُنفّذوا ما خططوا له.
## جهد الأئمّة
### الإمام مسلم
أثناء تصنيف الإمام [[مسلم]] صحيحه، وعند ذكره لأحاديث الصلاة وبعد ترتيب بعضها ترتيبًا حسنًا، أراد إيصال رسالة للقارئ: أن هذه النتيجة الحديثية التي توصل إليها لم تأت إلا بالعناء المضني، فأخرج بعدها أثراً عن الإمام [[يحيى بن أبي كثير]] يقول فيه: "لا يُستطاع العلم براحة الجسم".
فبرغم أن كتابه الصحيح لا يخرج فيه إلا أحاديث مرفوعة عن النبي ﷺ، إلا أنه وضع هنا قولاً لأحد صغار التابعين ليُبيّن لنا أن إنجازاً كهذا لا يتحقق إلا بالجهد المُضني. وهذا التعب لا يختص بمطلب دون مطلب، بل هو في الكمالات الإنسانية كلها، يقول ابن القيم: "الكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على "جسر من التعب". ولتحصيل أفضل ثمرة يجب توجيه تعبنا باتجاه المُستقبل الأبدي.
### ابراهيم الحربي
نقل [[ابن تيمية]] عن [[ابراهيم الحربي]] قوله: "**أجمع عُقلاء كلّ أمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم**"
كما نقل عنه [[الخطيب البغدادي]] مقولة عجيبة في أنه لا يتحمل المشاق فقط بل لا يأبه بِها، فقال: "أجمع عُقلاء كلّ أمة أنه من لم يجرِ مع القدر لم يتهنّأ بعيشه، كان يكون قميصي أنظف قميص وإزاري أوسخ إزار، ما حَدّثت نفسي أنهما يستويان قط، وفرد عقبي مقطوع، وفرد عقبي الآخر صحيح، أمشي بهما وأدور بغداد كُلّها، هذا الجانب وهذا الجانب، لا أحدّث نفسي أن أصلحها، وما شكوت إلى أمي، ولا إلى أختي، ولا إلا امرأتي، ولا إلى بناتي قطّ: حمى وجدتها، **الرجل هو الذي يدخل غمّه على نفسه، ولا يَغُمّ عياله**، كان بي شقيقة خمسًا وأربعين سنة ما أخبرت بها أحداً قط، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيت جائعًا عطشان إلى الليلة الثانية"
ومقولته "النعيم لا يُدرك إلا بالنعيم" يُمكن استذكارها كلّما شعر المرء بالتعب أو الملل أو رغبة الالتفات لغير معالي الأمور. وهذا المعنى نفسه صحيح في أمور الدّنيا والآخرة.
## ما ورد عن التّعب في الوحي
واستحضار الثمرة واستذكار العاقبة هو من أهم ما يُعين النّفس على التحمل. والعلاقة بين التعب والنجاح نراها مذكورة في مواضع عديدة في القرآن والسُّنة:
- قال ﷺ: "حُفّت الجنة بالمكاره".
- وقال: "الدنيا سجن المؤمن"، لشدّة ما فيها من الكلفة والجُهد.
- وقال تعالى في وصف أهل الجنة: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">... إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ [[الذاريات-16|]] كَانُواْ قَلِيلٗا مِّنَ الَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ [[الذاريات-17|]]</span>﴾.
- وقال عن الرسول ﷺ وسادات الصحابة: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ الَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَۚ [[المزمل-20|]]</span>﴾.
- وأمر نبيه بقوله: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">قُمِ الَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا [[المزمل-2|]]</span>﴾
- وقال عن أهل النّار: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُتۡرَفِينَ [[الواقعة-45|]]</span>﴾
- وقال تعالى في قصة نوح ﷺ: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا [[نوح-5|]]</span>﴾
## أقوال الشُّعراء في التّعب
ومن أقوال الشّعراء تعبيرًا عن فهمهم للعلاقة بين التعب والنجاح:
- قال أبو تمام [[حبيب بن أوس الطّائي]]:"بَصُرت بالراحة الكُبرى فلم ترها *** تُنال إلا على جسر من التّعب"
- وقال أيضا: "ولم تُعطِني الأيام نومًا مُسكّنًا *** ألذُّ به؛ إلا بنوم مشرّد"
- وقال [[المتنبي]]: "لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يُفقر، والإقدام قتّال"
- وقال: "إذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مُرادِها الأجسام"
## مستويات المشقّة
ومن يلتبس عليه فهم أنّ هذا النَّصب والتعب يخالف تيسير الإسلام وأن المشقة تجلب التيسير فهذا بسبب الخلط بين مستويين للمشقة:
1. **المشقة المُعتادة التبعية:** التي تكون تابعة للعبادة ولازمة لها ولا يمكن التخلص منها - فهذه يُحمد تحملها ومجاهدة النفس عليها ويؤجر على ذلك.قال ﷺ: "أجرُك على قدر نصبك". وقال: "والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران"
2. **المشقة المقصودة بالأصالة:** هي مشقة ليست من العبادة، يتكلفها المرء تكلّفًا وليست في مصلحة العمل - فهذه مذمومة. وورد في السنّة أنّ النبي ﷺ: (رأى شيخًا يُهادى بين ابنيه، فقال: "ما بال هذا؟" قالوا: نذر أن يمشي، قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"، وأمره أن يركب).