# جناحُ الذّل
من الاستعارات القُرآنية التي جذبت اهتمام الكاتب، ودفعته للتفكير فيها زمنًا، هي قول الله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَاخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ...[[الإسراء-24|]]</span>﴾. فالجناح جزء حسّيّ في الطّيور تطير بواسطته في السّماء، كما في قوله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى الطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَـٰٓفَّـٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ...[[الملك-19|]]</span>﴾. كما ذكر الله مشهد جناح الطير في القرآن في مواضع أُخرى مما يدلّنا على عظمته. ولكنّ هذا المشهد حرّك في ذهن الكاتب التساؤل التالي: لماذا أضاف الله هذا الجناح الحسّيّ المعروف، إلى الذل الذي هو سُلوك أخلاقيّ وجزء منه معنوي؟ ما مغزى هذه الاستعارة؟ وماذا يُريد الله سبحانه بهذا التركيب اللُغوي؟ وما الدّلالة المُتطلَّب إيحاؤها من لفظ الجناح بما يَخدِم مفهوم الذّل؟
## معنى جناح الذّل
### تأملات المفسّرين والبلاغيّين
تأمّل البلاغيون في هذه الاستعارة في ووصلوا لنتائج مُدهشة ومُتفاوتة للعلاقة بين الجناح والذّل. ومما وجده الكاتب أربعة أقوال لثلاثة من العلماء الخُبراء في علوم اللغة العربية:
#### 1. القفّال الشاشيّ
طرح [[القفّال الشاشيّ]] رحمه الله وجهين للعلاقة بين الجناح والذّل:
1. عندما يريد الطائر التحليق والصعود ينشر جناحه، وعندما يريد الهبوط والنزول يخفضه؛ فيناسب تصوّر التذلل للوالدين بأنه كخفض جناح الطائر.
2. أنّ الطائر يحنو على فراخه فيلفّهُم بجناحه وينزله عليهم تعطّفًا وشفقة؛ فيناسب تصوير التذلل للوالدين والرحمة بِهما كأنه خفض جناح الطائر على فراخه.
#### 2. ضياء الدّين ابن الأثير
طرح [[ضياء الدين ابن الأثير]] وجهًا ثالثًا للعلاقة في كتابه [[المثل السائر]]، قال: (فإن الجناح للذل مُناسب، وذاك أنّ الطّائر إذا وهن أو تعب بَسَط جناحه وخفضه، وألقى نفسه على الأرض).
#### 3. الشهاب الخفاجي
أشار [[الشهاب الخفاجي]] إلى وجه رابع: أن الطائر إذا رأى جارحًا شلّه الذعر فيلصق جسمه جناحه بالأرض، وهذا غاية خوفه وتذلله.
### قراءة أُخرى ومعنى جديد
ذكر أصحاب علم القراءات أن كلمة الذل أنزلها الله بقراءتين في هذا الموضع:
- بضمّ الذال (الذُّل) وهي القراءة المشهورة.
- بكسر الذال (الذِّل).
يقول أبو الفتح [[ابن جني|أبو الفتح ابن جني]]: (ومن ذلك قراءة [[ابن عباس]] و[[عروة بن الزبير]] في جماعة غيرهما "جناح الذِّل"، قال أبو الفتح: "الذِّل" في الدابة ضد الصعوبة، و"الذُّل" للإنسان وهو ضد العزّ، وكأنهم اختاروا للفصل بينهما الضمة للإنسان والكسرة للدابة).
ففي هذه القراءة معنى التذلل للوالدين كما تكون الدابة ذليلة مُنقادة مستكينة مطاوعة لراعيها..
## التطبيق العملي للسّلف لخفض جناح الذّل
### في الأبواب الفقهية
قد تنبّه العلماء إلى خصوصية وأهمية التعامل مع الوالدين حتى في دراستهم للأبواب الفقهية، فمِمّا قالوا في باب فقه الحسبة وأحكام النهي عن المنكر:
- قال [[أحمد بن حنبل|الإمام أحمد]] في هذا الباب: (ليس الأب كالأجنبي)
- قسم [[الغزالي]] الحسبة لخمس مراتب، وجعل اثنتين منها تليق من الابن للوالد، والبقية لا تليق.
- للإمام [[الإمام مالك|مالك بن أنس]] تعليق في هذه المسألة، قال [[القرافي]]: (المسألة الأولى: أن الوالدين يؤمران بالمعروف ويُنهيان عن المُنكر، قال [[الإمام مالك|مالك]]: ويخفض لهما في ذلك جناح الذل من الرحمة).
### سلوكيات البِرّ
- **التطبيق العملي لخفض جناح الذل:** ما جاء في ترجمة [[عمرو بن ميمون]]: (قال الحلبي: حدثني [[عمرو بن ميمون]] بن مهران، قال: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول، فلم يستطع الشيخ يتخطاه، فاضطجعت له، فمرّ على ظهري).
- **خفض الصوت:** الحافظ [[عبد الله بن عون]] وقف على دقائق تجليّات آية خفض جناح الذل، فلاحظ أنّ مما يدخل في خفض جناح الذل و[[بر الوالدين]] مراعاة مستوى الصوت. فقد جاء في ترجمته: (عن عبد الله بن عون: أنه نادته أمه فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛ فأعتق رقبتين)!
وجاء هذا المعنى عن التابعي الجليل [[محمد بن سيرين]]، فكان: (إذا كلم أمه كلّمها كالمصغي إليها بالشيء). و(إذا كان عند أمّه، ورآه رجل لا يعرفه، ظنّ أن به مرضًا من خفضه كلامه عندها).
- **خضوع العينين:** رُوي عن [[عطاء ابن أبي رباح|عطاء]] و[[عروة بن الزبير|عروة]] بتفسيرهما لهذه الآية: (ولا تحدّ بصرك إليهما، إجلالاً وتعظيمًا)، وقال [[المناوي]]: (العقوق كما يكون بالقول والفعل؛ يكون بمجرد اللّحظ المُشعِر بالغضب).
- **تفضيل البِرّ على العِبادة:** كان التابعي [[محمد بن المنكدر]] من العلماء والرّواة المشهورين وكان أخوه [[عمر بن المنكدر]] من العباد المتنسكين، وروى الإمام [[ابن سعد]]: (قال [[محمد بن المنكدر]]: بات عمر يصلي، وبت أغْمِزُ رجليّ أمي، وما أُحِب أن ليلتي بليلته). أي أنه كان يدلّك رجلي أمه ويخفف إعياءها، وصرّح أنه يعتقد أن بِرّها أجلّ في ميزان الله من التهجد.
- **تقديم أمر الوالدين على المصلحة الدنيوية:** قال [[الحسن بن عبد الوهاب الوراق]]: (كنت قد اعتزمت إلى الخروج إلى "سر من رأى" في أيّام [[المتوكل]]، فبلغه -أي أباه- ذلك، فقال لي: يا حسن، ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقلت: يا أبت، ما أريد بذلك إلا التجارة، فقاللي: إنك إن خرجت لم أكلمك أبدًا، قال: فلم أخرج وأطلعتُه، فجلست، فرزقني الله بعد ذلك، فأكثَر وله الحمد).