# مأزق المترقِّب
إنّ الوقوف متفرّجاً ومنتظرًا لتقدّم المشاريع دون عقد العزيمة والمُبادرة، يُبقي الإنسان أسير التّرقُّب دون مُراوحة مكانه، وسنين عُمره تضيع هباءً أمامه وما قدّم فعلياً أيّ شيء بمُتابعته للمستجدات وترقُّبه للأخبار.
ومع تقدّم الزمن تتقدّم الوسائل التي يُتابِع فيها المترقّب المُستجدّات، لكنه هو لا يتقدّم ولا يتغير. ومن تعلّق قلبُه بالمُتابعة بهذا الشّكل لا تُفارق ذهنه هذه المُتابعات لا في صلاته ولا في سائر حياته.
ولا يشمل ذمّ المُترقّب ذم نواياه وطموحاته، فهو قد يحمل أخلص النّوايا وأرقى الأهداف، لكنّه فقط لا يُقدِم على المُساهمة بها ولا يُقدِّم لها شيئاً، غير المُتابعة.
وكما أن اشتعال حماسة المُترقِّب سريعة عند سماعه عن فضائل شيء جديد، فإن برودة همته تأتي بنفس السرعة التي اشتعلت فيها حماسته فيفتر ويرجع إلى رُكن المُراقبة الذي اعتاد عليه.
## ترحيل المهام
وللمُترقّب مشكلة "ترحيل المهام"، ففي كل مرحلة من حياته يَعزُو تأجيل المُبادرة لأداء أهدافه لانتظاره المرحلة القادمة؛ التي سيكون فيها أكثر حريّة ومرونة لينطلق في تحقيق طُموحاته. وهكذا تتأجَّل مهامُه العظيمة في كل سنة للسنة القادمة، وفي كلّ مرحلة من حياته للمرحلة التالية. ويبقى هو مكانه لا يحرّك ساكناً، حتى يجد نفسه في عُمرٍ صعُب فيه الإنتاج والتحصيل، فيقف نادمًا على ما فات.
يظنّ البعض أنّ المُشكلة الحقيقية هي في لمعان وتألّق وجاذبية المُلهيات و[[وسائل التّواصل الاجتماعي]]؛ مما يسحب الإنسان للاستغراق بِها عن أداء مهامه، ولكن الواقع أنّ هذه الوسائل والمُلهيات هي وسيلة "هروب نفسيّ" عن المهام الواجِبة. فنفس المُلهيات عندما تكون واجبة على الإنسان؛ فإنه يتهرّب مِنها لأداء غيرها!
ويكون الترقُّب وأشدّ خطرًا سوءًا عندما يكون ممن هم في جيل الشّباب وفي مرحلة الإنتاج والنّشاط، فتضيع أثمن أوقاتِهم وأعمارهِم في ما لا يُفيد. ثُمّ إذا أدركوا ما وقعوا فيه تكون القوى قد خارت والهمّة قد ضعُفت.
## شرف الزّمن
وإن تأملّنا الليل والنّهار، وتقلّب الأيام، وأنّ الله أقسم بالزّمن بقوله ﷻ: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَالۡعَصۡرِ [[العصر-1|]]</span>﴾؛ فإننا نُدرك شرف الزّمن. ففي كُلّ ثانيةٍ نحن نُنفِق من رصيدنا الزمنيّ المكتوب. وما يُنفق لا يَعود ولا يُعوّض؛ فإما أن نقضيه بِما ينفع من علمٍ وعمل يأتينا ثوابه في الآخرة، أو أن يضيع في الترقب والتفرج وإنها لصفقة خاسرة. قال ﷺ: (نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس: الصحّة والفراغ).
ووصف الفاروق [[عمر بن الخطاب]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span> حالةَ من حالتُه تُشبه التّرقب بما يُسمى بـ(الحالة السّبَهلليّة)، فقال: (**إني أكره الرّجل يمشي سبههلا، لا في أمر الدُّنيا، ولا في أمر الآخرة**). وفي نفس المعنى قال [[ابن مسعود]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span>: (إني لأمقُت الرّجل أن أراه فارغًا، ليس في شي من عمل الدُّنيا ولا عمل الآخرة). ومن أكبر عوامل هذه الحالة أن يقطع المُترقّب أعماله دون إتمامها فيما يُسمى (التّقطُّع والتّرحُّل)، وقال في هذا [[بدر الدين بن جماعة]]: (**وكذلك يحذر التنقّل من كتاب إلى كتاب من غير موجب، فإنه علامة الضّجر وعدم الإفلاح**).
## آثار التّرقب والمراقبة
ووصلنا لزمن بلغت فيه الأزمة أن تُنقل الأخبار وجدالاتها من مواقع التواصل إلى جلسات التّحاور. ونرى قدر الضّياع عِندما نُقارن محتوى هذه النِّقاشات بِما كان يدور في المجالس من حوارات علميّة مهمة ومفيدة.
ويُلحظ يتأثّر المُترقب وذوقه وألفاظُه ورُقيُّه بما يحتكّ به في مواقع التّواصل من مُشاحنات وتلفظّات ومواضيع غير ذات أهمية، والتأثر ليس فقط في محتوى المادة المُتابعة بل إن أسلوبها وطريقة تقديمها تؤثّر كما يؤثّر محتواها، قال [[ابن تيمية]]: "ومن شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكُله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشُّم، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلّت رغبته في المشروع وانتفاعه به، بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع، فإنه تعظم محبته له ومنفعته به، ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القُرآن ...".
ويجب التّنبُه لأن العادات السيئة تبدأ بمرة أولى، فعلينا الحذر من الانزلاق لمُستنقعات الردود الفجّة والكلمات النابية عند كثرة التّعرض للمُناقشين غير الراقين، ولا يجب أن نُبرر لأنفسنا السقوط في مثل هذه الأساليب بأنّ الآخرين لا يفهمون إلا هذا الأسلوب.
وكما أن عضلات الجِسم تضمر وتضعف إن توقف الإنسان عن التمارين البدنية، فإن القدرات الذهنية تضعف إن لم يتم تمرين الذهن. قال [[ابن تيمية]]: "لفظ الرّياضة يُستعمل في ثلاثة أنواع: (رياضة الأبدان) بالحركة والمشي، و(رياضة النفوس) بالأخلاق الحسنة، و(رياضة الأذهان) بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة". فمن يبتعد عن الكتب والبحوث الدقيقة وحل الألغاز العلمية العميقة، وملأ وقته بقراءة كلام سطحي؛ ستبدأ قدراته الذهنية بالضمور، ويبدأ بالنفور من المسائل الصعبة المُتعبة لذهنه.