# تقديم القرآن على السُّنة ## بيان الشُّبهة يكون موقف القائلين بهذه المقولة عادةً أقلّ سلبية من القائلين بمقولة أنّ [[في القرآن كفاية]]، فأغلبهم لا يرفضون السُّنة تمامًا، بل يضعون شرطًا لقبولها، وهو: أنّهم يعرضونها على القرآن، فما وافق منها القرآن أخذوا به، وما عارض منها القرآن ردّوه. ولكنّ بعض من يغلون بهذه المقولة يصِلون إلى ردّ السُّنة كاملة، والرّد عليهم يكون كما في الباب السّابق ذِكره. ويستدلّ القائلين بهذه المقولة بأحاديث مثل: (إنّ الحديث سيفشوا عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عنى يخالف القرآن فليس عني)، أو حديث: (إنّي لا أُحل إلا ما أَحل الله في كتابه، ولا أحرِّم إلا ما حرَّم الله في كتابه). ## حل إشكال الشُّبهة ### الردّ على الأدلّة المُستخدمة من القائلين بهذه المقولة قال العلّامة [[أحمد شاكر]]: (هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن، بل وردت فيه ألفاظ كثيرة، كلها موضوع، أو بالغ الغاية في الضعف، حتى لا يصلح شيء منها للاحتجاج أو الأستشهاد). **فكُل هذه الأحاديث لا تصحّ من جهة الإسناد**. **وأمّا من ناحية المتن: فاستدلّ الإمام [[ابن حزم]] على بطلان معنى هذه الأحاديث بأنّ الأمر بطاعة الرسول ﷺ‎ في القرآن جاء مُطلقًا، دون ذكر اشتراط موافقة قول الرسول ﷺ‎ للقرآن**، فقال: (أول ما نعرض على القرآن الحديثَ الذي ذكرتموه، فلمّا عرضناه وجدنا القرآن يخالفه، قال الله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيْنَ الْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْۚ وَاتَّقُواْ اللَّهَۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[[الحشر-7|۝]]</span>﴾. وقال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظٗا[[النساء-80|۝]]</span>﴾. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ اللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمٗا[[النساء-105|۝]]</span>﴾). ### تفصيل ما تحتمله الشُّبهة من معنى هذه المقولة قد تحتمل معنيين: #### 1. رد الحديث لعدم مجيء حُكمه أو معناه في القرآن وهذا المعنى باطل ولا يُقبل؛ لأنه يَلزمه ردّ سُنّة النبي ﷺ‎ وعدم قبول ما يوجد في السُّنة من أحكام لم ترِد في القُرآن. وتخصيص قبول ما ورد من السُّنة في القُرآن فقط يجعل السُّنة غير ذات فائدة؛ لأننا بهذا نقبل من تشريع السُّنة فقط ما قد جاء في القُرآن تشريعه أصلاً، فما فائدة السُّنة في هذه الحالة إن كانت تكرارًا لما في القرآن؟! #### 2. ردّ الحديث لمُعارضته ما جاء في القرآن ومن يقول بهذا المعنى فهو يردّ كُلّما خالفت فيه السُّنة القرآن. وهذا الأسلوب يستخدمه المُحدّثون عند نقدهم للمُتون، فما خالف القرآن أو الأحاديث الصّحيحة أو العقل أو الواقع بشكل لا يُمكن فيه الجمع بين المعاني؛ فإنهم يُقدّمون أقوى الأدلّة. **ولكنّ الفرق بين أسلوب المُحدّثين والقائلين بهذه الشُّبهة أنّ المحدّثين يتّبعون منهجية دقيقة ومضبوطة في الموازنة بين الأدلّة والترجيح بينها**، وعندما يقومون بالترجيح فإن ترجيحهم يكون بعد دراسة كافّة الأدلة ومُحاولة الجمع بينها بأوجه مقبولة تُفضي إلى إعمال كافّة النصوص. وعند ترجيحهم فإنّهم يتدّرجون بحسب قوّة النّصوص وثُبوتها (من ناحية صحّتها)، وبحسب ما تقدّم منها زمنيًا وما تأخر (لمعرفة النّاسخ والمنسوخ). وإن لم يصِل العالم لنتيجة في التّرجيح بين بعض النّصوص يتوقّف ولا يُرجّح برأيه أو بهواه. > [!info] فائدة > مما يجب اعتقاده أنّ الحديث إن ثبتت صحّته وإحكامه عن النبي ﷺ‎ فيستحيل وقوع التعارض بينه وبين القرآن الكريم؛ فكِلاهُما وحي من الله تعالى. بل والأدلّة الصحيحة عمومًا لا تتعارض في حقيقتها، وإنّما قد يتوهّم النّاظر تعارضها. فيجب عند استشعار التعارض أن يُدفع التعارض بالمنهجية الشرعية الصحيحة كما سبق، فإن ثبت التعارض بعد كُلّ الدّراسة فالخلل يكون في أحد الدليلين قطعًا. ### ردُّ بعض الصّحابة لأحاديث خالفت ظواهرها القرآن ⛔ قد يقول قائل أن بعض الصّحابة قد ردّوا أحاديثًا لمُخالفة ظواهرها من القرآن، مثل: - استدراك أمِّ المؤمنين [[عائشة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">J</span> على أحاديث غيرها من الصّحابة، وردّها لحديث [[ابن عمر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>: (الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه)، فقالت: (رحم الله أبا عبد الرحمن، سمع شيئًا فلم يحفظه، إنما مرّت على رسول الله ﷺ‎ جنازةُ يهودي وهم يبكون عليه، فقال: أنتم تبكون وإنّه ليُعذَّب)، وقالت في رواية: (ولكنّ رسول الله ﷺ‎ قال: إنّ الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه)، وقالت: (حسبكم القرآن: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">... وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزْرَ أُخْرَىٰۚ ...[[الأنعام-164|۝]]</span>﴾. - ردّ [[عمر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> لحديث [[فاطمة بنت قيس]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">J</span>، أنّ رسول الله ﷺ‎ لم يجعل لها سُكنى ولا نفقة، فقال عُمر: (لا نترك كتاب الله وسنّة نبيّنا ﷺ‎ لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السُّكنة والنفقة، قال الله عزّ وجلّ: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">... لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّآ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ ...[[الطلاق-1|۝]]</span>﴾). ✅ وجواب هذا يكون ببيان عدّة أمور: <div style="page-break-after: always;"></div> #### 1. الانطلاق من منهج شرعي في البحث وجمع الأدلّة ودراستها فعند حدوث هذه المواقف من الصّحابة نرى منهم جمع الأدلة والموازنة بينها وإعمالها جميعًا حال الإمكان، ويأتي الترجيح بينها عند العجز عن الموافقة بينها. فلا يصحّ أن يُفهم من هذه الشّواهد أنّ الأخذ كان بالقرآن فقط لمُعارضة السُّنة له، بل وُجدت قرائن ووسائل للترجيح، والمُرجِّح كان مؤهّلاً للترجيح. ومع وقوع هذا الترجيح من الصّحابة، لكنّ نتيجته قد تكون صحيحة أو غير صحيحة. وقد خطّأ عدد مِن العُلماء بعض هذه الاستدراكات بعد دراسة منهجيّة ودقيقة، قال [[ابن تيمية]]: (ما علمنا أحدًا من الصحابة والتابعين مع فضل عقلهم وعلمهم وإيمانهم ردُّوا حديثًا صحيحًا وتأولوه على خِلاف مُقتضاه، لمخالفة ظاهِر القرآن في فهمهم أو لمخالفة المعقول أو القياس، إلّا كان الصّواب مع الحديث ومن اتّبعه، فكيف بمن بعدهم؟! وهذا من معجزات الرسول وآيات حفظ دينه وشرعه وسننه). #### 2. تأهّل أصحاب هذه الشّواهد وامتلاكهم أدوات الاجتهاد والترجيح ففي الشّواهد السّابقة قامت [[عائشة]] و[[عمر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">L</span> بترجيح ما تلقّوه عن النبي ﷺ‎ أو فهموه مِنه، على رواية أخرى جائتهم قد تحتمل خطأ النّاقل. فلم تكن هذه الشّواهد ترجيحًا محضًا لمُجرّد توهّم تعارض السُّنة مع القرآن، بل ذُكرت الآيات كدليل على توافق رواية المُرجِّح مع القرآن. والقائم بهذا التّرجيح هُم من سادات أهل العلم المؤهّلين للاجتهاد في هذا الباب. #### 3. ندرة وجود هذه الشّواهد كَون الشّواهد من هذا النوع نادرة هو دليل على أنّ عُموم ما كان عليه الصّحابة هو قبول ما يصِلُهم من حديث النبي ﷺ‎، ومبادرتهم بالطّاعة مُباشرة. ووجود هذه الشواهد اليسيرة يؤكّد أن هذه الوقائع كانت استثناءً بسبب وقوع عارض. وتعلّق هذه الشّواهد بمواضع معينة وقع فيها إشكال في ذهن المُجتهد يبيّن أن هذه الترجيحات تقع في مواضع دقيقة، وليست طريقة تستخدم على عامّة ما جاء في السُّنة. وموقف الصّحابة في هذه المسائل العارِضة يختلف تمامًا عن موقف مَن يعرض كُلّ ما في السُّنة على القرآن ليرُدّ كلّ ما ظنّه مخالفًا لآية أو لمعنى يتصوّر أن الآية تحمِله. #### 4. قول عمر <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>: (لا نترك كتاب الله وسُنّة نبيّنا)^[من خارج الكتاب: اجتهاد من كاتب الملخّص، والله أعلم] قال [[عمر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> صراحةً أن سبب ردّه للحديث الآخر هو مُخالفته للقرآن ولِما عَلِمه مِن السُّنة، فهذا دليل على أنّه لم يُقارن الحديث بالقرآن فحسب، بل جمع بين النّصوص وغلّب النّص الذي وافق أصحّ الأدلّة لديه.