# كيف نقبل الحديث وقد تأخر التدوين؟ ## بيان الشبهة يتشكك البعض في حفظ السُّنة النبوية بذريعة أنها لم تُدوَّن إلا بعد زمن الرَّسول ﷺ‎ بقرون على يد [[البخاري]] وغيره من العلماء. ويزيد بعضهم في هذه الشُّبهة بأنّ النبي ﷺ‎ قد نهى عن كتابة سُنّته مما يؤكّد تأخّر تدوينها عن زمن النبوّة، مما يزيد من إمكانية قيام بعض الكَذَبة بإضافة بعض الآثار والأحاديث عن النّبي ﷺ‎ للسُّنة النبوية. وهذا التصوّر يحمل العديد من المغالطات العلمية الدّالة على جهل القائل بها بأبسط الحقائق التاريخية المتعلقة بالسُّنة النبوية وتدوينها، وبعلوم الحديث والرِّجال. وقبل الخوض في حلّ إشكالات الشُّبهة يجب تأكيد ناحية عقدية تتعلق بحفظ ما تحتاجه الأمّة من السُّنة: <mark style="background: #BBFABBA6;">فلا بُدّ من الإيمان بأنّ ما تحتاج إليه الأُمّة لإقامة دينها لا بُدّ أن يكون محفوظًا بحفظ الله تعالى</mark>، لقوله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ[[الحجر-9|۝]]</span>﴾، فالذِّكر هنا أشمل من القرآن وحده، فهو كُلّ ما أنزله تعالى على النبي ﷺ‎ من ذِكر. ⛔فإن قال أحدهم القول بأنّ المقصود بالذِّكر في هذه الآية القرآن فقط، فهذا لا ينفي حفظ السُّنّة هنا، ✅فالسُّنة هي مما يُبيّن القرآن، فإن كان المقصود بالآية حفظ القرآن فقط، فمن الضروري لحفظه ولتقوم الحُجّة به أن يُحفظ معه ما يبيّنه، وإلّا لاختلف النّاس في فهمه ولضاع حفظه ولو حُفِظ نَصُّه. فحفظ السُّنة هو مُتضمّن في حفظ القرآن. ومثال هذا أنّ الله قد أمرنا بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة وغيرها من العبادات، وهذه العبادات جاءت مُجمَلة في القرآن وبيّنتها السُّنّة، فهذا يستوجب أن يشتمل حفظ القرآن على حُفظ ما يُبيّن الأوامر التي جاءت فيه. ## حلّ إشكال الشبهة ### 1. شبهة نهي النبي ﷺ‎ عن كتابة حديثه صحّ من حديث [[أبو سعيد الخدري|أبي سعيد الخدري]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> أنّ رسول الله ﷺ‎ قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحُه، وحدّثوا عني، ولا حرج). ⛔بناءً على هذا الحديث يقول البعض أنّ النبي ﷺ‎ قد نهى عن تدوين سُنّته، ويتعلّق بهذه الشبهة أمران: 1. **أنّ السُّنة ليست بِحُجّة**: فلو كانت حُجّة لما نهى النبي ﷺ‎ عن كتابتها. وقد تمّ بيان حُجّية السُّنة في الأبواب السابقة، ويُضاف إليها مع هذا الحديث اللفتة إلى طرافة وغرابة أن يستخدم من يريد نفي حُجّية السُّنة حديثًا نبويّا ليستدلّ به! 2. **أنّ السُّنة غير محفوظة** لتأخّر كتابتها عن زمان النبي ﷺ‎، وهذا ما سنُبيّن جوابه. <div style="page-break-after: always;"></div> ✅ الجواب على هذا القول هو أن نرفض القراءة الانتقائية للسُّنة، فكما قال النبي ﷺ‎ هذا الحديث، فإنّه قد قال بأحاديث عديدة صحيحة صريحة تفيد ترخيص الكتابة والأمر بها، ومنها: 1. أنّ رجلاً من أهل اليمن اسمه أبو شاه قام في خطبة للنبي ﷺ‎ فقال: اكتبوا لي يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ‎: (اكتبوا لأبي شاه) 2. عن [[عبدالله بن عمرو]] أنّه قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله ﷺ‎ أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول الله ﷺ‎ بشر يتكلم في الغضب والرضا. فأمسكت عن الكتاب. فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ‎ فأومأ باصبعه إلى فيه فقال: (اكتب، فوالذي نفي بيده ما يخرج منه إلا حق). واختلف العلماء في كيفية الجمع بين ما جاء في هذه الأحاديث وما جاء في النّهي عن الكتابة، فانقسموا إلى اتجاهات، أهمُّها: 1. **الترجيح**: رجح بعض أهل العلم أحاديث التّرخيص في الكتابة لكثرتها وقوتها بالمقارنة بأحاديث النّهي. 2. **القول بالنّسخ**: فقيل أنّ أحاديث النّهي عن الكتابة قد نُسخت بأحاديث الأمر بها، وأنّ النهي إنّما كان بداية الأمر لمنع اختلاط السُّنة بالقرآن. 3. **أنّ النهي يتناول مواضع غير مواضع الرخصة**: فقال بعض أهل العلم أنّ النهي كان نهيًا عن كتابة السُّنة والقرآن في صحيفة واحدة لمنع اختلاطهما، أو أنّ النهي كان خاصًّا في وقت نزول القرآن لمنع التباس المكتوب مِن السُّنة بالقرآن، أو أنّ النهي هو في حق من يُوثَق بحفظه لكيلا يتّكل على الكتابة ويترك الحفظ، وغير هذه الأقوال. ومع هذا الاختلاف بالتعامل مع هذه الحالة، لكنّ الإجماع قد استقرّ بين العلماء على مشروعية كتابة السُّنة دون خلاف. ويُلاحظ هُنا أيضًا وقوع القائل بهذه المقولة بنفس التناقض المذكور سابقًا، فهو يستدلّ على عدم حفظ السُّنة بحديث نبويّ هو جزء مما نُقل إلينا من السُّنة! ### 2. شبهة تأخّر تدوين السُّنة النبوية كذريعة للتشكيك في حفظها ⛔تُبنى هذه الشّبهة على تصور مغلوط لوجود انقطاع ممتد إلى قرنين من الزمان بين زمن النبي ﷺ‎ حتى ظهور المدونات الشهيرة للسُّنة كصحيحي البخاري ومسلم وغيرها، وأنّ المرويات الباطلة قد اختلطت بالصحيحة في هذا الانقطاع حتى امتزج الصحيح بالمكذوب. ونقض هذه الدّعوى يتم من جهتين: 1. ✅ حسن تصوّر وفهم طبيعة نقل سنّة النبي ﷺ‎ من زمانه حتى ظهور كتب السُّنة المعتمدة، ولهذا طريقان: الحفظ في الصّدور، والحفظ في السّطور. 2. ✅ طرق العلماء في التوثّق من سُنّته ﷺ‎، ومعرفة قواعد [[التحمل]] و[[الأداء]]، وقواعد علوم الحديث والرِّجال. وسنبيّن هذين الأمرين باستعراض تاريخي لواقع نقل السُّنة بشكل مختصر: <div style="page-break-after: always;"></div> #### حفظ السُّنة في زمن النبي ﷺ‎ من مظاهر ومُعينات حفظ ونقل سُنّة النبي ﷺ في زمانه: - **انتقاء النبي ﷺ‎ لألفاظه**، وطريقة أداءه: - قالت [[عائشة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">J</span> أن النبي ﷺ‎ كان يحدث حديثًا لو عده العادّ لأحصاه. - وقالت: ما كان رسول الله ﷺ‎ يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام يبيّنه، فصل، يحفظه من جلس إليه. - قال [[أنس]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>: إن النبي ﷺ‎ كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه. - **تشجيع النبي ﷺ‎ ودعوته لنقل أحاديثه وحفظها، والدعاء لمن فعل ذلك**. - **حفاوة النبي ﷺ‎ بمن اعتنى بحديثه**، كقوله ﷺ‎ ل[[أبو هريرة|أبي هريرة]] عندما سأله عن أسعد النّاس بشفاعته يوم القيامة: (لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث). - **دعاء النبي ﷺ‎ لبعض أصحابه بالحفظ المتقن**، كدعائه ل[[أبو هريرة|أبي هريرة]] بالحفظ. - **عناية النبي ﷺ‎ بكتابة سُنّته**، كقصة أبي شاه، و[[عبد الله بن عمر]] المذكورتين سابقًا. - **تحوّط النبي ﷺ‎ لسُنّته وتحذيره مِن الكذب عليه**، كقوله ﷺ‎: (إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعدة من النّار) - **ارتباط السُّنة بالتشريع حفَّزَ على حفظها وضبطها وتحديد صحيحها**. - **تعدد زوجات النبي ﷺ‎ ساهم في إكثار رواياتهنّ عن حياته الخاصة**، وهذا متضمّن في قوله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا[[الأحزاب-34|۝]]</span>﴾. - **استقرار أمر النبي ﷺ‎ لمدّة جيّدة من دعوته، وكثرة صحابته، وظهور أمره في آخر حياته على جزيرة العرب**؛ كلّ هذا ساهم في معرفة وانتشار سُنّته ﷺ‎. #### حفظ السُّنة في زمن الصّحابة - **شدّة محبّة الصحابة للنبي ﷺ**‎؛ مما دفعهم للعناية بأحواله، ويُرى هذا في كميّة المَرويات عن دقائق أحواله. - **تديّن الصحابة رضي الله عنهم**، وحرصهم على الخير، هُما من بواعث الحرص لتتبع سُنّة النبي ﷺ‎ وحفظها. - **تشدد الصحابة مع من يبدي معارضة لحديث النبي ﷺ**‎، مثاله ما جاء عن [[سالم بن عبدالله بن عمر]] أن [[عبد الله بن عمر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">L</span> قال: سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم إليها). قال: فقال [[بلال بن عبد الله]]: والله لنمنعهُنّ. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبًّا سيئًا، ما سمعته سبه مثله قَط، وقال: أخبرك عن رسول الله ﷺ‎ وتقول والله لنمنعهن. - **سعي الصّحابة لتحصيل ما فاتهم من حديث النبي ﷺ**‎، ف[[ابن عباس]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> كان من صغار الصّحابة ولم يسمع الكثير من النبي ﷺ‎ مباشرة، ولكنّه كان من أكثر الصّحابة رواية للحديث لحرصه على تتبع الروايات. - **تناوب الصّحابة في الجلوس عند النبي ﷺ‎ طلبًا لحديثه**، قال [[عمر بن الخطاب]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي ﷺ‎، فينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك - **ضبط الصّحابة الدقيق لما أخذوه عن النبي ﷺ**‎، وتأكيدهم ما سمعوا من النبي ﷺ‎، وأمثلة هذا: - عن [[محمد بن علي بن الحسين]] قال: وكان ابن عمر إذا سمع النبي ﷺ‎ لم يزد فيه، ولم ينقص منه، ولم يجاوزه، ولم يقصر عنه. - قول [[أبو برزة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>: أحدِّثك بما سمعت أذناي ورأت عيناي. - حين سُئِل [[علي بن أبي طالب]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>: أنت سمعته من محمد ﷺ‎؟ قال: إيْ ورب الكعبة، إيْ ورب الكعبة. - كان [[أنس]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> إذا حدّث عن رسول الله ﷺ‎، قال: أو كما قال رسول الله ﷺ‎. - **الحرص على كتابة حديث النبي ﷺ**‎، ومما اشتهر بذلك [[عبدالله بن عمرو]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>. - **المراسلات بين الصحابة ذاكرين أقوال وأحكام النبي ﷺ‎ في المسائل**، ككتاب [[أبي بكر الصديق]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> لمقادير الزكاة وأحكامها عن الرسول ﷺ‎. - **سفر الصحابة <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">M</span> في تتبع حديث النبي ﷺ**‎. كسفر [[جابر بن عبدالله]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> إلى [[عبد الله بن أنيس]] في الشام طلبًا لحديث واحد. - **تحوّط الصحابة في شأن الرواية وتثبّتهم من صحة الروايات**، كقصّة [[عمر بن الخطاب]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> في حديث الاستئذان. - **حرص الصحابة على أداء أمانة الرواية لمن بعدهم**، كما ورد من صلاة أحدهم أمام التابعين ليعلّمهم صلاة رسول الله ﷺ‎. #### حفظ السُّنة في زمن التابعين - **حِرْص التابعين على ملازمة الصحابة وجمع أحاديثهم**، كما يظهر من قول [[عروة بن الزبير]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>: (لقدْ رأيتُني قبل موْت عائشة بأربع حِجج، وأنا أقول: لو ماتتِ اليومَ ما ندمتُ على حديث عندَها إلا وقد وَعَيْتُه) - **حرص التابعين على كتابة السُّنة**، ففي كتاب [[دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه]] تمّ رصد 53 من الطبقة القرن الأول و99 من طبقة القرن الثاني من التابعين ممن كتبوا الحديث أو كتب عنهم. - **ظهور العناية الكبيرة بشأن الإسناد ومعرفة أحوال الرواة**، كما يظهر في قول [[ابن سيرين]]: (لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ) <div style="page-break-after: always;"></div> #### حفظ السُّنة في زمن أتباع التابعين - **استمرار العناية برواية الحديث ﷺ‎ والاهتمام بالأسانيد**، قال [[ابن المبارك]]: (الإسناد من الدِّين، لولا الإسنادُ لقَالَ من شاء ما شاء) - **كتابة المصنفات في جمع السُّنة**، ومن المصنّفين: [[ابن جريج]]، و[[الأوزاعي]]، و[[محمد بن إسحاق]]. #### زمن اتساع دائرة التأليف والتصنيف بين القرن الثاني الهجري حتى الثالث الهجري - **ظهور علماء أفذاذ عندهم تمكن ودراية بالحديث والأسانيد والعلل والرجال**، ك[[يحيى بن سعيد القطان]]، و[[أحمد بن حنبل]]، و[[البخاري]]، و[[مسلم]] وغيرهم الكثير. - **تطور التصنيف ليشمل أنواع جديدة من التأليف**، كظهور مؤلفات تجمع أعلى الأحاديث صِحّة كما في [[صحيح البخاري]] و[[صحيح مسلم]]. وكذلك ظهرت كتب [[السنن]] وغيرها. - **ظهور علوم مساندة تضبط المتن والإسناد**، ككتب الرجال، والرواة، و[[مواد/مواد شرعية/علوم الحديث والسنة/مفاهيم/الجرح والتعديل]]، وعلوم المصطلح، والمسائل، وغيرها. ## خلاصة <mark style="background: #BBFABBA6;">الطعن في حفظ السُّنة بدعوى عدم تدوينها مبكّرًا هي دعوى تكشف عن جهلٍ شديد بتاريخ الرواية وطبيعتها والعناية بها، فالتدوين وُجد مبكّرًا في زمن النبوّة، وكانت مسيرة التدوين متوازية مع التلقي الشفهي المتصل الإسناد.</mark>