# ليست السُّنة كُلّها تشريعًا ## بيان الشبهة يتحدّث بعض المعاصرين بتقسيم ما صدر عن النبي ﷺ‎ إلى سنّة تشريعية وسنّة غير تشريعية، ويقولون باتّباع السّنة التشريعية وعدم الأخذ بالسّنة غير التشريعية لأنها بحسب رأيهم لم يُقصد بها التشريع أصلاً ونرى هذا الخطأ في أقوال المعاصرين القائلين بهذه القسمة، ففي البداية يبدؤون بإخراج بعض الجوانب الظاهرية كإعفاء اللحية وتقصير الشارب من السُّنة التشريعية، ثمّ يخرجون كافة أقوال النبي ﷺ‎ في باب الطب من السُّنة التشريعية ويعتبرونها تجارب بشرية، ثم يتم إخراج التصرفات السياسية للنبي ﷺ‎ من السُّنة التشريعية، وفي نهاية المطاف يتمّ إخراج كافة السُّنن المتعلقة بالأمور الدنيوية من السّنة التشريعية متذرّعين بقوله ﷺ:‎ (أنتم أعلم بأمور دنياكم). ## أمور يجب استحضارها قبل التفصيل في حلّ الشبهة ### 1. الأصل حجيّة أقوال النبي ﷺ‎ وأفعاله وتقريراته فمجموع ما صدر عن النبي ﷺ‎ يُشكِّل السُّنة النبوية، والله تعالى قد أمر بطاعة نبيّه ﷺ‎ بأمر مطلق دون تقييد أو تحديد لنوع معين من تصرفات النبي ﷺ‎. ### 2. ضرورة إدراك طبيعة وأنواع التصرفات النبويّة بعكس من يقسم السُّنة إلى تشريعية وغير تشريعية، فقد ضبط العلماء التصرفات النبوية وقسّموها بشكل علمي دقيق على أنواع: 1. **التصرفات الجِبِليّة**: كالقيام والقعود والأكل والشرب. وهي كل ما وقع من النبي ﷺ‎ بمقتضيات البشرية المحضة فلا يكون فيه تشريع وليس فيه تعبّد (وإنما يفيد الإباحة فقط). 2. **التصرفات العاديّة**: كأكله للدباء (القرع)، وربطه حجرًا على بطنه من الجوع، أو لبسه القطن. وهي ما وقع من النبي ﷺ‎ مما كان معروفًا ومالوفًا في قومه مما لا يدل على تعبّد أو تقرّب إلى الله. وهذه التصرّفات تدل على إباحة الفعل لا استحبابه. وأمّا إذا ورد الأمر بالفعل أو الترغيب فيه أو اقترن بما يدلّ على التشريع فيكون أمرًا مشروعًا ويصبح فيه تعبّد، وهذا مثل لبس البياض من الثياب، وإعفاء اللحية، وما يتعلّق بالآداب ونحوها. 3. **التصرفات التشريعيّة**: كالصلاة والحج وغيرها. وهي التصرفات التي يُقصد بها البيان والتشريع. والاتّباع في هذه التصرفات يكون واجبًا أو مستحبًا. 4. **التصرفات الاجتهاديّة**: سيتبع تفصيل هذا النوع لاحقًا لأنّ الشبهة تمركزت فيه. 5. **التصرفات الخاصة بالنبي ﷺ‎**: كالجمع بين تسعة نسوة، والتبرك بآثاره. وهي ما ثبت بالدليل اختصاص النبي ﷺ‎ به من التصرفات. والحكم في هذه الأمور يكون مختلفًا عن حكم غيره. 6. **التصرفات المعجزة**: كخوارق الأمور التي أجراها الله تعالى على يد نبيه ﷺ‎، وليس في هذا مجال للاقتداء للنبي ﷺ‎، فالخوارق ليست محل تكليف. ## حل إشكال الشبهة ### 1. مستندات الخلل في توسيع مفهوم السُّنة غير التشريعية #### المُستند الأول: مفهوم الاجتهاد النبوي وهو أنّ ما يصدر عن النبي ﷺ‎ ليس صادرًا بالضرورة عن الوحي، بل قد يكون باجتهاد منه ﷺ‎. والاجتهاد منه معرّض لأن يكون خطأً. وحدث هذا في عدّة مواضع في السّيرة النبويّة حيث اجتهد النبي ﷺ ‎ببعض الأمور، ثم جاء الوحي ليبين خطئه فيها. ويقول القائلون بهذه الشُّبهة بأنّه طالما أنّ بعض تصرفات النبيّ ﷺ‎ اجتهادية، فهي إذًا ليست موضعًا للتشريع، فيسوّغون لغيره أن يجتهد كما اجتهد. #### المُستند الثاني: حقيقة التصرفات النبوية وهي أنّ النبي ﷺ ‎كان يمارس في حياته أدوارًا متعددة غير دور النبوّة، كما يفعله بمقتضى بشريّته، أو بمقتضى واقعه ككونه قائدًا سياسيًا أو قاضيًا أو زوجًا. فيقول أصحاب الشّبهة أنّ ما يؤخذ من النبي ﷺ‎ هو ما يصدره عنه بمقتضى النبوّة فقط، وأمّا بقيّة أدواره الحياتيّة فليست تشريعيّة. ### 2. بيان أصل الخلل في هذه المستندات نلاحظ من المستندات التي تستند عليها الشُّبهة أنّ سبب الإشكالية هو في تحديد الموقف من الاجتهادات النبوية: فالمشكلة الأساسية ليست بالقول أنّ الاجتهاد يقع من النبي ﷺ‎، ولا بقسمة السُّنة إلى تشريعية وغير تشريعية. بل إنّ <mark style="background: #FF5582A6;">الإشكال الحقيقي هو في إخراج قسم مما يندرج تحت السُّنة التشريعية وإدخاله في السُّنة غير التشريعية دون الاستناد إلى منهجية علمية حقيقية.</mark> ### 3. الرد على المستندات التي بُنيت عليها الشبهة لتوضيح الخلل في تقسيم السُّنة بالطريقة التي يعتمدها أهل الشبهة سنناقش مستنديها وفق الأسس التالية: #### أ. الاجتهادات النبوية لا تنافي التشريع مسألة وقوع الاجتهاد من النبي ﷺ‎ هي مسألة خلافية قديمة بين العلماء، وخلاصة توجههم فيها: 1. من منع وقوع الاجتهاد مُطلقًا. 2. من أجاز وقوعه: وهؤلاء منهم من قال أن الاجتهاد النبوي كان فقط في الشأن الدنيوي، ومنهم من قال أن الاجتهاد النبوي جاء في الشأنين الدنيوي والديني، وهؤلاء هم الأكثر. بعض أهل العلم من القسم الثاني المُجيز لوقوع الاجتهاد النبوي أدخلوا اجتهاده في باب العصمة النبوية، فهكذا كان اجتهاده منزهًا عن الوقوع في الخطأ. وأمّا الذين الذين أخرجوا الاجتهاد من العصمة قالوا بأنّ الخطأ يُمكن أن يقع في اجتهادات النبي ﷺ،‎ ولكنّهم مَنَعوا أن يُقرّ عليه الوحي؛ أي أنّ الخطأ إن وقع فإن الوحي سيأتي لتصحيحه قطعًا. وهكذا ندرك أن أوسع الأقوال الأصولية لا يُفضي لتوسيع مفهوم السُّنة غير التشريعية، ولا لإخراج اجتهادات النبي ﷺ‎ من السُّنة التشريعية بشكل شامل. <mark style="background: #BBFABBA6;">فما اجتهد فيه النبي ﷺ‎ هو إمّا صواب فأقرّه الوحي، أو خطأ فنزل الوحي بتصويبه.</mark> #### ب. الأصل في التصرفات النبوية صدورها باعتبارات النبوة الأصل في تصرفات النبي ﷺ‎ أنّها صادرة بمقتضى نبوّته ﷺ‎. ونرى هذا في قوله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰٓ[[النجم-3|۝]] إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٞ يُوحَىٰ[[النجم-4|۝]]</span>﴾، وفي قوله ﷺ‎ ل[[عبدالله بن عمرو]]: (أكتب، فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقّ). فالأصل أنّ ما يصدر عن النبي ﷺ‎ هو من هديه النبوي إلّا ما تأتي القرائن لتثبت عكسه. وهذا ما نراه في تعاطي الصّحابة مع هذه التصرفات النبوية، فكانوا يسلّمون لها وينقادون لما فيها، وكانوا يبادرون بالسؤال إن حصل عندهم اشتباه -مع توفّر قرينة تدفع للاستشباه-. ولو كانوا يفكّرون كما يفكّر أصحاب الشبهة بأن تصرفات النبي ﷺ‎ في الأمور الدنيوية ليست من التشريع، لما استلزمهم ذلك أن يسألوا ويتحفّظوا ويستفصلوا. فالواقع كان أنّهم يأخذون ما يصدر عن النبي ﷺ‎ بالأصل على أنه تصرّف صادر عن نبوّته ﷺ‎ إلّا إن تبين عكس ذلك. ##### أمثلة - في قصة تأبير النخل (أي تلقيح النخل): ترك الصحابة التأبير لظنّهم أن قول النبي ﷺ‎ فيه صادر عن الوحي حتى تبيّن لهم أنه قاله عن ظنّه. فهذا يدلّ بوضوح على أن الأصل عندهم أخذ كُلّ ما يصدر عن النبي ﷺ‎ في أمور الدّنيا على أنه تشريع. - سؤال [[الحبّاب بن المنذر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> للنبي ﷺ‎ بيوم بدر: أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل. - مقولة الأنصار للنبي ﷺ‎ عندما فكر في مشاطرة غطفان تمر المدينة في غزوة الأحزاب، فقالوا: يا رسول الله، أوحي من السّماء، فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك، أو هواك، فرأينا تبعٌ لهواك ورأيك؟ فإن كنت تريد إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواءٍ ما ينالون مِنّا تمرةً إلّا بشرى أو قرى. (وهنا نرى بوضوح وبنصّ قولهم أنّهم كانوا يسلّمون للنبي ﷺ‎ حتى لو كان الأمر عن رأيه واجتهاده!) - حين شفع النبي لزوج [[بريرة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">J</span> في أن تعود له، فقالت له: يا رسول الله أتأمرني بذلك؟ قال: (لا إنما أنا شافع). <div style="page-break-after: always;"></div> #### جـ. حقيقة التمييز بين مقامات التصرفات النبوية في البحث الفقهي يتم التمييز في التصرفات النبوية وفرزها بين ما وقع باعتباره ﷺ‎ إمامًا أو قاضيًا، وبين ما وقع باعتباره مُبلّغًا. وهذا التمييز يتم لتحديد آثار محدّدة على الأحكام الفقهية. ⛔ ولكنّ المعاصرين من القائلين بهذه الشبهة يعتمدون على هذا التمييز في المقامات لإثبات أن السُّنة التشريعية هي المتعلقة بجانب التبليغ فقط، وأمّا الجوانب الأخرى فهي ليست تشريعية. ✅ والتمييز في التصرفات النبويّة الذي استفاد منه أهل الفقه هو صحيح في الأصل، والفائدة منه تحديد صفة الشخص المسؤول عن تطبيق الأحكام؛ فما صدر عن النبي ﷺ‎ باعتباره إمامًا للمسلمين يفيد أحكامًا يقوم عليها أئمّة المسلمين (كإقامة الحدود وتجهيز الجيوش)، وما يصدر عن النبي ﷺ‎ باعتباره قاضيًا يفيد أحكامًا يحمل مسؤوليتها قضاة المسلمين (كالفصل بين الخصوم، والنظر في البينات). فهذا التمييز لا يقول بفصل السُّنة إلى تشريعية وغير تشريعية، بل هو يقرّ أنها تشريعية ولكنه يحدد هويّة القائم بهذه الأحكام. ##### أوجه الخلل الذي وقع به القائلون بشبهة التمييز بين المقامات 1. نفي التشريع عن الأحكام الصادرة عن النبي ﷺ‎ في هذه المقامات: وهذا خطأ لأنها من التشريع لكن لا يكون لعامّة الناس وإنما لذوي الولاية. 2. تعميم الحكم على جميع أحكام هذه المقامات: وهذا خطأ فليس كُلّ ما قاله النبي ﷺ‎ بصفته قاضيًا أو إمامًا يختص بالقضاة والأئمّة فقط، فبعض هذه الأحكام تثبت للعامّة أيضًا. فتجب دراسة هذه الأحكام وانتقاء ما يختصّ منها بفئة معينة من المجتمع (كما فعل الفقهاء)، وأمّا فرزها بطريقة تعميمية فهو فرز خاطئ.