# تقديم الكتاب
أنزل الله القرآن الكريم تبيانًا لكُلّ شيء وتعهد بحفظه. فرُويَ القرآن عن رسول الله ﷺ متواترًا، حفظًا في الصدور وإثباتًا في الصّحف. ولذلك اعتُبر القرآن من الناحية الوثائقية البحتة أقدم وثيقة تاريخية وردت بالتواتر.
وحفظ الصّحابة كل أقوال وأفعال وأحوال النبي ﷺ، فهي تقع في دائرة البيان للقُرآن، قال تعالى: (<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">... وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ الذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ[[النحل-44|]]</span>). فيسر الله للأمة المسلمة حفظ السّنة بالرواية والإسناد ليكون البلاغ مبينًا على الوجه الصحيح.
وهذا الكتاب يأتي ليشكّل إضافة في التأصيل للفكر المنهجي، والتحصين الثقافي ، والتميز الحضاري، وضرورة العودة للجذور الأساسية، والتمكّن من العلوم الأصليّة لتُراثنا، واستئناف البناء على الأصول الحضارية والثقافية الإسلامية. فغياب المنهج وفقدان الضوابط الشرعية يؤديان إلى الفوضى الفكرية في الحياة العلمية والثقافية. وهذا يبدأ بفقدان البوصلة وضياع المقاييس، وينتهي بتوالي النكسات الفكرية والسياسية والاجتراء على القول في الدين بلا فقه ولا علم.
ففي مرحلة الضياع الحالية تكلّم في الدين والنّصوص مَن لا مؤهلات منهجية لهم، تقودهم عواطف فوّارة وحركات عشوائية يريدون حلّ مشاكل الواقع الإسلامي بها. وانضمّ إليهم كُتّاب من الخارج الإسلامي ممن دخلوا في علوم الحديث دون منهج ولا علم. فمشى الصّنفان في درب غير درب علماء الحديث، الذين دققوا في كلّ ما نقلوا عن رسول الله ﷺ؛ حذر الوقوع في الكذب عليه. قال [[الإمام مالك]]: "إنّ من شيوخي من أستسقي بِهم، ولكن **لا أروي عنهم الحديث**".
ومنهج المحدثين وقواعدهم انعكست على معظم العلوم والفنون النقلية الأخرى (كاللغة والأدب والتاريخ). فصار عُلماء هذه العلوم يجتهدون بالحفاظ على الإسناد في نقلهم. فصارت مدرسة عِلم الحديث هي السد المانع لتسلل الخرافات والبدع للحياة الإسلامية، وتصويب كُلّ من أخطأ الطريق وردّه إلى جادّة الصّواب.
فاجتهد عُلماء الحديث في رواية كُلّ ما رواه الرواة (وإن لم يكن صحيحًا)، ثم استوثقوا من صحة كل حرف في كلّ حديث، واستوثقوا من أحوال كلّ راوٍ، وقدّموا الجرح على التعديل. **فكانت قواعدهم أصحّ قواعد الإثبات التاريخي**.
فعندما نريد النّهوض من جديد: **علينا أن نعود لتمثّل العلوم الأصلية والمناهج التي قامت عليها حضارتنا الأولى وتُراثنا**. ولنا عِبرة بفشل من حاول استنهاض الأمّة الإسلامية بثقافات غربية.
ومن أهم المطلوبات اليوم مع ازدياد الوعي الإسلامي أن **نصِل العلوم الأصلية بواقع الحياة** بعد أن أصبحت علومًا نظريّة بعيدة عن الواقع. فهذه العلوم مِن علوم الآلة التي تُكتسب للاستخدام، وقيمتها تأتي بما تُقدّمه من نتائج للأمّة.
ولكن الاستمرار بطرح أهمية العودة لمناهج المحدثين دون القيام بخطوات حقيقية للرجوع إليها والاستفادة منها قد أضاع على الأمة الكثير من الوقت والجهد. فيجدر التّنبيه لبعض الجهود التي قام بِها علماء معاصرون في نقد بعض الروايات التاريخية:
- ما قام به الدكتور [[يوسف العش]] من عرض للرواية التاريخية لمرحلة الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي ورجالها، على موازين علماء الحديث، والتخلص من الروايات التي لا يقبلها ميزان المحدثين. فأثبت براءة الصحابة أجمعين مما نسب إليهم من أعداء الدين.
- جهود الدكتور [[عماد الدين خليل]] في إسقاط الكثير من الروايات التي وردت في الطبري في موضوع البيعة وخلافة [[أبو بكر|الصدّيق]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">h</span>، وترجيح روايات الطبري الأخرى. وخاصة أن كتاب الطبري لم يُعنى بنقد الروايات وإنما نُقلت فيه كلّ الروايات ليدرسها الدارسون.
- ما أصّله [[عبد الرحمن بن خلدون]] في علم التاريخ، وإظهار أسباب ما يُعرض للمؤرخين من مغالط.
ومن ميزات هذا الكتاب (على ما فيه من تخصصية): أن كاتبه قد ركز على إبراز ملامح منهج علماء الحديث وذلل الموضوع ليكون في متناول المُسلم المثقف.