# باب في الثبات على الاستقامة والحذر من الانتكاس ## مقدمة ينبغي أن يشغل بالَ المؤمن أمران بشكل دائم: 1. الاهتداء إلى الحق. 2. الثبات على ما هُدي إليه. ويخطئ البعض في التفكير في أحد الأمرين دون الآخر، فهناك من يفكر بالبحث عن الطريق الصحيح ثمّ ينسى قضية الثبات وهذا مما قد يؤدي للانتكاس، وهناك من يفكر بالثبات دون التفكير في إن كان ما هُدي إليه هو الحق أم لا. ويبين هذا الباب أن هذه المسألة كانت تشغل بالَ الأنبياء والصالحين بشكل دائم، فيجب أن تكون قضيّة دائمة ويوميّة تشغل بالَ المؤمن. ## الآيات ### 1. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ...[[آل عمران-8|۝]]</span>﴾ - هذه الآية التي تتحدّث عن دعاء الراسخين في العلم تُبيّن أنّ قضيّة الثبات وعدم الزّيغ كانت مما يشغل تفكيرهم ويخيفهم. - قد يظنّ البعض أن الرّاسخين في العلم لا ينبغي أن يفكروا في الثبات لأن العلم قد ترسخ لديهم، ولكن الله يبين لنا أن هؤلاء يعنيهم شأن الثبات ويدعون الله أن يثبتهم. - في الآية السابقة لهذه الآية وهذه الآية إشارة إلى أنّ من أسباب الانتكاس: اتّباع المُتشابه من القرآن. ### 2. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيٓ ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[[الأعراف-175|۝]] وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ ...[[الأعراف-176|۝]]</span>﴾ - تبيّن الآية أن الإنسان ولو تحصّل على العلم وكان على هداية فهو غير آمن من أن يُسلب هذه النّعمة. - **الانتكاس ليس قرارًا اختياريًّا بالضّرورة**، بل قد يكون أمرًا قدريًّا يكتبه الله ﷻ‎ على من لا يريد الانتكاس لكنّ عمله لا يُصدّق إرادته هذه. كما في قوله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُۥ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ[[التوبة-77|۝]]</span>﴾، وفي قوله ﷻ‎: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَنُقَلِّبُ أَفۡـِٔدَتَهُمۡ وَأَبۡصَٰرَهُمۡ كَمَا لَمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَنَذَرُهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ[[الأنعام-110|۝]]</span>﴾. - من أعظم ما يسبب الانتكاس: الإخلاد إلى الأرض، واتباع الهوى. <div style="page-break-after: always;"></div> ### 3. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِۖ ...[[الأحزاب-23|۝]]</span>﴾ - يذكر الله ﷻ‎ مجموعة من المؤمنين الذين ثبتوا عندما جاءت الفتنة العظيمة عند قدوم الأحزاب للمدينة. - يذكر الله تعالى إحدى أهمّ الصفات التي أدّت بهؤلاء المؤمنين للثبات: الصدق بعهد الله. - هؤلاء المؤمنون هُم قدوة بثباتهم ولا بُدّ من التماس الطريق الذي أدى بهم للثبات ليحاول المؤمن الاقتداء بهم ليثبت عند الشدائد والفتن. - مما وصف الله تعالى به الثبات أنّه شُكر لله، قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْـٔٗاۚ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّـٰكِرِينَ[[آل عمران-144|۝]]</span>﴾. - نحن في زمن نحتاج فيه للحديث عن الثبات لانتشار أنواع عظيمة من فتن الشّهوات والشّبهات والابتلاءت مما لا حصر له. - المؤمن يحتاج الثبات طيلة طريقه إلى الله، فحتّى إن خلى المُحيط من الفِتن، فإن نوازع النفس البشرية ووساوس الشّيطان قد تُحيْدان الإنسان عن الطّريق. - أمرنا الله تعالى أن ندعوا بالهداية مرات كثيرة بشكل يومي بقراءة ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ[[الفاتحة-6|۝]]</span>﴾ في كُلّ صلاة. ## الأحاديث ### 1. عن [[ابن عباس]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ‎ كانَ يقولُ: (اللَّهُمَّ لكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بعِزَّتِكَ -لا إلَهَ إلَّا أَنْتَ- أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الحَيُّ الَّذي لا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ) - ينبغي حفظ هذا الحديث والدّعاء الذي فيه. - يبين هذا الحديث أهميّة الثبات والخوف من الضلال، فالنبي يدعوا بهذا الدّعاء برغم أنّ الله قد بيّن له أنّه يثبّته. - في الحديث حثّ على المؤمن أن يقتدي بالنبي ﷺ‎ باستشعار أهميّة موضوع الثبات ومداومة استحضاره. ### 2. عن [[عبد الله بن سرجس]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> قال: كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ‎ إذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، وَدَعْوَةِ المَظْلُومِ، وَسُوءِ المَنْظَرِ في الأهْلِ وَالْمَالِ - وفسّر [[الترمذي]] وغيره الحَور بعد الكَور بالرجوع من الإيمان أو الطاعة إلى المعصية. - الكَور هو لفّ العِمامة، والحَور هو نقضُها بعد إحكامها. - في هذا التّشبيه تبشيع لقضيّة الانتكاس، فهو فساد بعد صلاح، ونقص بعد اكتمال. - يُثبِت هذا الحديث أنّ النبي ﷺ‎ كان يُكرر الدّعاء لله بالثبات بصيغ ومواضع عديدة. <div style="page-break-after: always;"></div> ### 3. ذَكَرَ [[النواس بن سمعان]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> حديثًا عن النبي ﷺ‎ في الدجال، وفيه: (مَن أَدْرَكَهُ مِنكُمْ، فَلْيَقْرَأْ عليه فَوَاتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ، إنَّه خَارِجٌ خَلَّةً بيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا) - على المؤمن تذكر نداء رسول الله ﷺ‎ (يا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا) عند كُلّ فتنة تعترض طريقه. - القرآن الكريم بمُجمله هو من أهم أسباب العصمة من الفتن ومن أهم أسباب الثبات، وخصص النبي ﷺ‎ قراءة فواتح سورة الكهف في فتنة الدّجّال؛ ليتذكّر الإنسان فيها عظمة الله تعالى، فتهون في عينه الخوارق التي يأتي بها الدّجّال، وليتّعظ بقصّة أهل الكهف وثباتهم عند الفتن وتجنّبهم لها. - عند كثرة الفتن فإنّ استحضار الأمثلة ممن ثبتوا كأهل الكهف يساعد الإنسان على الاستئناس بهم ولو لم يكن يراهم ويعايشهم. وكان النبي ﷺ‎ يأنس بقصص الأنبياء السابقين وبمعرفة ما تعرّضوا له من الفتن وثباتهم عندها. - مما يختصّ به أهل الكهف: أنّهم فتية ليسوا كِبارًا، وثبتوا عند فتنة خانقة قويّة. ### 4. عن [[عبدالله بن عمرو]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> أنه سمع رسول الله ﷺ‎ يقول: (إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ)، ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ‎: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا علَى طَاعَتِكَ) - في هذا الحديث حقيقة عقدية مهمة ينبغي معرفتها: وهي أنّ قلب المرء ليس بيديه، فإيمانه وثباته ليسا قرارًات ماديّةً بحتةً يتّخذها. فالإنسان مخيّر وله إرادة حقيقيّة، ولكنّها محكومة بإرادة الله تعالى، قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">... وَاعْلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ ...[[الأنفال-24|۝]]</span>﴾. - معرفة هذه الحقيقة تدفع الإنسان للتواضع، ومعرفة قدر نفسه، وأنّ ما فيه من إيمان هو هبة من الله تعالى، وأنّ الله تعالى قادر على رفع هذه الهبة. - المطلوب عند معرفة هذه الحقيقة: التّمسّك بالدّعاء لله تعالى بالثبات. - **الخوف من الانتكاس هو من أهم ما يدفع الإنسان للدعاء بهذه الأدعية والحرص على الثبات**، فعلى الإنسان عدم الرّكون للشعور الزّائف بالأمان من الفتن ومن الانتكاس. <div style="page-break-after: always;"></div> ### 5. عن [[أنس]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> عن النبي ﷺ‎ قال: (ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ) - من أهمّ أسباب الثّبات: الشعور بحلاوة الإيمان. - عدّد النبي ﷺ‎ ثلاثة من الأسباب المهمّة للثبات. فليست العبادات وحدها هي من تؤدي للثبات، بل من المهم السّعي للوصول لحلاوة الإيمان، ومن وصل لحلاوة الإيمان فعليه السّعي للمحافظة عليها. - بيّن النبي ﷺ‎ أنّ للإيمان طعمًا حلوًا يجده من تكون به هذه الصّفات، ومما قيل ممن عايش هذه الحلاوة: - "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعيم إذًا لجالدونا عليه بالسيوف" - "إنْ كان أَهلُ الجنَّة في نَعيم مثل هذا؛ إنَّهم لفي عَيشٍ طيّب" - (أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا) هو أهم سبب للشعور بحلاوة الإيمان، والسببين الآخرين هما تِبع لهذا السّبب. فما ينبغي على المؤمن التفكّر فيه والسّعي إليه هو إيجاد طريقة تحقيق السّبب الأول. فليس تحقيق تبدية محبّة الله ورسوله على ما سواهما هو تحقيق بالمشاعر فقط، ففي كتاب الله تعالى نجد أنّ إثبات محبّة الله تعالى تكون دائمًا مرتبطة بتضحيات معيّنة تُظهر أنّ العبد فعلاً يضحّي بمحبوباته الأخرى أمام محبّته لله تعالى ورسوله. ### 6. عن [[علي بن أبي طالب]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> قال: قالَ لي رَسولُ اللهِ ﷺ‎: (قُلِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ) - نلاحظ أنّ النبي ﷺ‎ قد أوصى بهذه الوصية لعليّ <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> وهو: - من أئمّة وسادات المؤمنين. - من شهد النبي ﷺ‎ بحب الله ورسوله له وأنّ الله ورسوله يحبّانه. - من قال له النبي ﷺ‎ أنّه منه بمزلة هارون لموسى عليهما السّلام. - اختار الله لعلي <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> هذه الوصيّة المشتملة على الهداية والسّداد. - أوّل ما يخطر ببالنا عندما يوصينا أحدٌ بأنّ ندعوا الله بالهداية، أننا على معصية معيّنة ونحتاج للهداية منها، ولكن النّبي يوصي بهذا عليّ وقد ذكرنا صفاته، فهذا يعني أن الثبات يجب أن يكون همّ الصالحين أيضاً. - يعلّم النبي ﷺ‎ عليًّا <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> أن يستحضر عند الهداية هداية من ضاع والتبست عليه الطّرق ثم وجد الطريق. وأن يستحضر بالسّداد سداد السّهم المُصيب لهدفه.