# باب في تحمل الفرد مسؤولية التكليف تجاه نفسه وغيره
## مقدمة
كانت الأبواب السّابقة أساسًا وتمهيدًا لما سيأتي، والباب الحاليّ سيكون وصلة توصل بين الأبواب السابقة والأبواب التالية المتعلقة بالواجبات والمسؤوليات والإصلاح.
بالبداية تمّ بيان مرجعية الوحي، وأهمية تعظيمه، وتعظيم حدود الله، ثم تمّ الانتقال للنفس البشرية وتزكيتها وتزكية القلوب، ثمّ بيان أهميّة العلم النّافع، ثم بيان ضرورة العمل وأنّه هو الغاية، ثم التنبيه على تحقيق النية الصحيحة عند العمل ووجوب إخلاصها لله تعالى. والآن نأتي لفهم المسؤولية الملقاة على عاتق المسلم.
وسيأتي الكلام عن مسؤولية التكليف تجاه الفرد نفسه وغيره في هذا الباب، وفي الباب التالي سيكون الحديث عن المسؤولية العامّة تجاه الإسلام والمسلمين. والثمرة المرجوّة هي فهم أمرين:
- أنّ هُناك مسؤولية شخصيّة على الفرد المسلم تجاه الإسلام والمسلمين.
- أنّ المسؤولية العامّ تجاه الإسلام والمسلمين لا يجب أن تصرف المرء عن مسؤوليته الفردية في التكاليف.
## الآيات
### 1. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَۚ ...[[النساء-84|]]</span>﴾
- القتال في سبيل الله بذاته هو مسؤولية عامّة، ولكنّ الآية تُركّز على المسؤولية الفرديّة على ذات الإنسان؛ فالتكليف هُنا على الفرد نفسه، بغض النظر عن ما تكون استجابة الآخرين ونُصرتهم أو خذلانهم.
- النبي ﷺ كان ينطلق بتنفيذ أوامر الله تعالى من هذا المبدأ: أنّه مُكلّف وحده. الدليل: في بعض المعارك كانت تتفرق صفوف المُسلمين ونجد أنّ الرسول ﷺ هو الصّامد بينهم (كَيوم أحد).
- كان النبي ﷺ ينطلق في حياته باعتبارين:
1. أنّه عبد مُكلَّف.
2. أنّه نبيّ مُبلِّغ.
فلم يكُن يتصرّف على أنّه نبيّ فقط، بل كان يتلقّى الأوامر التي تأتيه ويستجيب لها كما يُبلّغها. نرى ذلك في قوله تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">قُلْ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[[الأنعام-161|]] قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ[[الأنعام-162|]] لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[[الأنعام-163|]]</span>﴾. كمان كان الله تعالى كان يُثني على نبيّه ﷺ بوصفه عبدًا له.
<div style="page-break-after: always;"></div>
- في أحداث [[الحديبية]] قال النبي ﷺ كلمة عجيبة في سياق تكليف النفس بعد أن قال له [[بُديل بن الورقاء الخزاعي]] أن قُريشًا قد جمعوا لهم الجُموع لمنعهم من دخول مكّة، فقال ﷺ: (إنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أحَدٍ، ولَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيْشًا قدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ وأَضَرَّتْ بهِمْ، فإنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْنِي وبيْنَ النَّاسِ، فإنْ أظْهَرْ: فإنْ شَاؤُوا أنْ يَدْخُلُوا فِيما دَخَلَ فيه النَّاسُ فَعَلُوا، وإلَّا فقَدْ جَمُّوا، وإنْ هُمْ أبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ علَى أمْرِي هذا حتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، ولَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أمْرَهُ) وجاء في أحد معاني (تنفرد سالفتي): أي ولو بقيت وحيدًا في مُقاتلتهم، وهذا بنفس معنى (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ).
- يجب استحضار معاني هذه الآية في المجالات الدعوية والإصلاحية والعلمية، فعلى المرء عدم انتظار الآخرين، ولا انتظار أن تتحسن الأوضاع، ولا أن يتحجج بكثرة الفتن والشهوات. فالله تعالى لم يُكلّف المرء بتغيير كُل الواقع وإصلاح كُلّ شيء بنفسه، ولكن التكليف يبقى قائمًا للقيام بما أمكن للمرء القيام به.
### 2. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَرْدًا[[مريم-95|]]</span>﴾
- يصعب تصوّر معنى هذه الآية في مُجتمعات اعتادت على العيش كجماعات وقبائل وأُسر. فاستشعار معنى أن يأتي الإنسان في يوم القيامة وحيدًا دون مؤنس في مواجهة الأهوال هو أمر مخيف وخطير.
### 3. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَاتَّقُواْ يَوْمٗا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٖ شَيْـٔٗا ...[[البقرة-48|]]</span>﴾
- تصبّ هذه الآية والآية السابقة في معنى أنّ على المرء تحمل مسؤولية التكليف تجاه نفسه.
## الأحاديث
### 1. عن [[أبو هريرة|أبي هريرة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> قال: قَامَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أنْزَلَ اللَّهُ: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ[[الشعراء-214|]]</span>﴾، قالَ: (يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ؛ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا بَنِي عبدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا)
- في هذا الحديث تأسيس لمسؤولية الإنسان تجاه نفسه بشكل واضح ومفصّل في يوم من أوائل أيام النبوة.
- النبي ﷺ لا يُغني أحدًا من أقربائه مِن الله شيئًا، فمن باب أولى أن يستشعر المرء أن عموم البشر لن يُغنوه من الله شيئًا.
- قول النبي ﷺ (اشتروا أنفسكم) يأتي بمعنى أنقذوا أنفسكم، فيجب البذل بكُلّ ما يملك الإنسان لينقذ نفسه من عذاب الله ﷻ.
<div style="page-break-after: always;"></div>
### 2. عن [[عبد الله بن عمر]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">L</span> قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والإِمَامُ رَاعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ ومَسْئُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ)
- قول النبي ﷺ (**كُلّكم** راعٍ) يدلّ على أنّ كُل فرد تقع عليه المسؤولية.
- مما يتبادر للذهن أن يسأل الإنسان عن حالة الخادم، فمن المفهوم أن يكون على بقيّة الأصناف المذكورة مسؤولية في رعيّتهم، ولكن كيف يكون الخادم راعٍ؟ والجواب أنّ المرء مسؤول عن رعيّته بغض النّظر عن مكانته، فأيّ شيء يُستأمن عليه الإنسان فهو مسؤول عنه مهما كبُر أو صغُر.
- تتعاظم المسؤولية بقدر التكاليف التفصيلية، فالإمام العام مسؤوليته عظيمة جدًا أمام الله تعالى بالمقارنة بمن دونه (ونرى استشعار هذا المعنى من كبار من تولّى أمر المسلمين ك[[عمر بن الخطاب]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span>).
- من المسؤوليّات التي لا تقلّ أهميّة عن مسؤولية الإمام العام، هي مسؤولية القائم على أمانة الدّين وميراث النبوّة في تبليغ الدين للناس، وحفظ دينهم، والدفاع عن الدين. فهذا مسؤوليته عظيمة جدًا أمام الله تعالى. فهذه المسؤولية تفتح أمام المرء بابان: باب إلى الجنّة قلّما يُفتح لغيره، وباب إلى النّار (والعياذ بالله) ليس كُلّ أحد قد يقع فيما يُدخله منه.
- من المسؤوليات الكُبرى أمام الله تعالى والتي يستهين بها النّاس: المال. فمن يملك المال تتعاظم مسؤوليته فيه ويكون إما خيرًا له أو وبالاً عليه. قال ﷺ عن أصحاب الأموال: (هُم الأخسرون وربُّ الكعبة) واستثنى منهم من أنفق كثيرًا في سبيل الله. وقال النبي ﷺ (قُمْتُ علَى بابِ الجَنَّةِ، فَكانَ عامَّةَ مَن دَخَلَها المَساكِينُ، وأَصْحابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ) وأصحاب الجدّ هم أصحاب المال، فهذا يظهر أنّ أصحاب المال عليهم مسؤوليات كثيرة يُحاسبون عليها، بينما يفرغ المساكين من حسابهم بسُرعة أكبر.
<div style="page-break-after: always;"></div>
### 3. عن [[النواس بن سمعان]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> قال: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فيه وَرَفَّعَ، حتَّى ظَنَنَّاهُ في طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذلكَ فِينَا، فَقالَ: (ما شَأْنُكُمْ؟) قُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً، فَخَفَّضْتَ فيه وَرَفَّعْتَ، حتَّى ظَنَنَّاهُ في طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَقالَ: (غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي علَيْكُم، إنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فأنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وإنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ)
- من فوائد هذا الحديث: أسلوب النبي البيانيّ، وإعطاؤه القضايا حقّها، فكان الصّحابة عندما يُحدّثهم وكأنّهم يرون ما يتحدّث عنه من أمور الغيب أمام أعينهم. وعلينا التشبّث بالمجالس التي يحضر فيها هذا المعنى من زيادة الإيمان، والتذكير بالرّحمن، وترقيق القلب، والتذكير بالجنّة والنار. والخاسر هو من يحوّل المجالس العلمية إلى معلومات مجرّدة وكأنها علوم طبيعية دون أي يمسّ قلبه شيء منها.
- عندما رأى النبي ﷺ تأثّر الصّحابة بقضيّة الدّجال خفّف النبي ﷺ عليهم خوفهم الآني بقوله (غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي علَيْكُم، إنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فأنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ).
- الشّاهد في هذا الباب قوله ﷺ (فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ).
- يُمكن لنا أن نضع مكان الدّجال أي فتنة أو شُبهة في هذا الحديث ونقول (فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ) في هذه الفتنة والشُّبهة. فالمرء عليه من نفسه مهما كان تجاوب البشر مع هذه الفتن والشُّبهات.
### 4. عن [[عدي بن حاتم]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> قال: قال رسول الله ﷺ: (ما مِنكُم أحَدٌ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ ليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ تُرْجُمانٌ، فَيَنْظُرُ أيْمَنَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ مِن عَمَلِهِ، ويَنْظُرُ أشْأَمَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ، ويَنْظُرُ بيْنَ يَدَيْهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وجْهِهِ، فاتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ)
- يؤكد هذا الحديث معنى تحمّل مسؤولية الإنسان تجاه نفسه، إذ سيكلّمه ربّه وحده ولن يُنجيه من عذابه إلّا عمله.
- يوجّهنا النبي ﷺ للعمل طالما أننا في الدُّنيا دار العمل لنتّقي النّار بكُل ما نستطيعه.
- إحدى وسائل اتقّاء العذاب هي الصّدقة.