# باب القدوة في الدين وحب من هذه صفته ## مقدمة المراد من هذا الباب: 1. إثبات وجود القدوة في الدِّين. 2. الحث على أن يكون الإنسان قدوة في الدّين. 3. محبّة من كان قدوة في الدّين. القدوة في الدِّين تكون إمّا شاملة في كل مجالات الدِّين، أو أن تكون قدوة في باب أو أبواب معينة من أبواب الدّين. فأمّا القدوة الشمولية في الدّين فلا تكون مُطلَقة إلّا للنبي محمد ﷺ‎، وأمّا من هُم دونه فإن الاقتداء فيهم لا يكون اقتداءً مطلقًا، بل يكون مقيّدًا بما يوافق النبي ﷺ‎. ويتعيّن على من يكون قدوة من هذا النوع أن يكون عالمًا بالعلوم الشرعيّة وبميراث النبي ﷺ‎. وأمّا القدوة المحددة في أبواب معيّنة فلا يتعيّن على القدوة فيها أن يكون الشخص عالمًا متخصصّا في العلوم الشرعية. وعلى الإنسان -وإن لم يتيسر له أن يكون قدوة- أن يُحبّ القدوات والأئمّة في الدِّين. ## الآيات ### 1. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[[فصلت-33|۝]]</span>﴾ - في هذه الآية بيان لأنّ الدعوة إلى الله هو من مقامات القدوة في الدِّين. ولا تكون الدّعوة إلى الله تعالى موجهة لمن لا يدين بالإسلام فقط، بل هي واسعة وتشمل قضية الحثّ على الخير والإمامة في الدِّين وغيرها. - أورد [[ابن السعدي]] في تفسيره معانٍ كثيرة مما يشمله معنى الدعوة إلى الله، وهذا يبين لنا سعة أبواب الدعوة إلى الله والقدوة والإمامة في الدّين، ومما ذكره في الدعوة إلى الله: - تعليم الجاهلين. - وعظ الغافلين والمعرضين. - مجادلة المبطلين. - الأمر بعبادة الله وتحسينها. - الزجر عما نهى الله عنه وتقبيحه. - تحبيب الله إلى عباده. - الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنّة نبيه ﷺ‎. - القدوة في الدّين تكون بأمرين (والخير بالجمع بينهما): 1. بالحثّ على الخير والدعوة إليه، فيقتدي النّاس بما يدعي إليه القدوة. 2. العمل بالخير، فيقتدي النّاس بما يعمل القدوة. - في قوله (دَعَآ إِلَى اللَّهِ) فيه إشارة للدعوة القوليّة، وفي قوله (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قد يكون فيه إشارة إلى القدوة العملية بإظهار الاعتزاز بالإسلام. ### 2. قال تعالى: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةٗ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ[[السجدة-24|۝]]</span>﴾ - تبين هذه الآية ثلاثة أمور: 1. الطريق الموصل إلى منزلة الإمامة: الصبر واليقين. 2. والدور الأساسي لمن يكون قدوة في الدين: هداية الخلق. 3. والمرجعية لمن يكون في هذه المنزلة: أمر الله تعالى. - يُلاحَظ أن الطريق المذكور في الآية للوصول لمنزلة القدوة لم يذكر فيه العلم، وإنّما الصبر واليقين، ولكن [[ابن السعدي]] أشار في تفسيره إلى أن الصبر المذكور يشمل الصبر على تلقي العلم، كما قال أنّ درجة اليقين المذكورة في الآية هي: العلم التامّ المُوجِب للعمل. فنرى أنّ العلم مرتبط تمامًا بالطريق الموصل للقدوة. ### 3. قال تعالى على لسان المؤمنين: ﴿<span style="font-family: 'KFGQPC HAFS Uthmanic Script'">... وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[[الفرقان-74|۝]]</span>﴾ - بيّن [[ابن السعدي]] في تفسيره لهذه الآية أن في هذه الآية دعاءً لله ليوصلنا لدرجة الإمامة في الدين، وهي درجة الصّديقين والكُمّل من عباد الله الصالحين، وأن يكونو قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم. وبين أن هذا الدعاء هو دعاء بما لا تتم هذه المنزلة إلّا به: وهو الصّبر واليقين. ## الأحاديث ### 1. عن [[أبو هريرة|أبي هريرة]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> أن رسول الله ﷺ‎ قال: (مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا) - هذا الحديث والحديث التالي يفتحان للمسلم بابًا في أن يكون قدوة في الدّين ولو لم يكن واسع العلم، أو مترقّيًا في درجات العبودية العالية؛ فيكون في الدعوة إلى شيء من الخير أو سَنِّ سُنّة في الخير باب من أبواب الإمامة. - يبيّن الحديث أن الدعوة والقدوة قد يكونان في أبسط الأمور، ففي قوله ﷺ‎ (مَن دَعا إلى هُدًى) فالهُدى هُنا لا يتطلّب كثير علم، فقد يكون كلمة نُصح لجار أو صديق أو قريب. <div style="page-break-after: always;"></div> ### 2. عن [[جرير بن عبد الله]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> قال: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأعْرَابِ إلى رَسولِ اللهِ ﷺ‎ عليهمِ الصُّوفُ فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ، فَحَثَّ النَّاسَ علَى الصَّدَقَةِ، فأبْطَؤُوا عنْه حتَّى رُئِيَ ذلكَ في وَجْهِهِ. قالَ: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ جَاءَ بصُرَّةٍ مِن وَرِقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا حتَّى عُرِفَ السُّرُورُ في وَجْهِهِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ‎: (مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ له مِثْلُ أَجْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عليه مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ) - نرى في مقدمات الحديث أن المقصود من السُّنة الحسنة المذكورة في هذا الحديث: المسارعة والمبادرة في عمل الخير، فلا يجب على الإنسان ابتداع شيء جديد ليكون له أجره، بل يكفي في الكثير من الأحيان فتح باب الخير للآخرين بالمُسارعة في الخيرات. - قد يرد أحيانًا قول أن الإنسان لا يطلب العِلم ليكون داعيًا وإمامًا، وإنّما يطلبه لنفسه، وهذه المقولة قد تكون صحيحة في بعض السياقات لكنها ليست صحيحة بشكل مُطلق، فقد يطلب الإنسان العلم ليكون قدوة وإمامًا وليكسب هذا الأجر. ### 3. عن [[عبد الله بن عمرو]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> أن رسول الله ﷺ‎ قال: (إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا) - يبيّن هذا الحديث قيمة ومكانة العلماء وأنّهم صمّام أمان للأُمّة. - كما يبيّن الحديث أن من شأن النّاس اتّخاذ رؤوسٍ في الدّين، سواء أكانوا من أهل العلم أو من أهل الجهل. - يرتبط هذا الحديث بما قبله بأن العالِم له من الأجور لاهتدائه بنفسه ولأنّه يهدي غيره، وبأن الرؤوس الجُهّال يَضِلّون بأنفسهم ويُضِلّون غيرهم. - يبيّن هذا الحديث خطورة منزلة الإمامة، وأنّ على من يكون في هذه المنزلة أن يخاف أن يكون ممن ذمّهم الرسول ﷺ‎ في هذا الحديث. <div style="page-break-after: always;"></div> ### 4. عن [[أنس بن مالك]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> قال: أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ ﷺ‎ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (ومَاذَا أعْدَدْتَ لَهَا). قَالَ: لا شيءَ، إلَّا أنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسوله ﷺ‎، فَقَالَ: (أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ). قَالَ أنَسٌ: فَما فَرِحْنَا بشيءٍ، فَرَحَنَا بقَوْلِ النبيِّ ﷺ‎: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ قَالَ أنَسٌ: فأنَا أُحِبُّ النبيَّ ﷺ‎ وأَبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ معهُمْ بحُبِّي إيَّاهُمْ، وإنْ لَمْ أعْمَلْ بمِثْلِ أعْمَالِهِمْ - عندما سؤل النبي ﷺ‎ عن السّاعة؛ لَفَت انتباه السّائل لما ينفعه بقوله (ومَاذَا أعْدَدْتَ لَهَا). - يُتَوقَّع أن يكون أكثر الناس فرحًا بمقولة (أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ) مَن لم يعمل شيئًا كثيرًا، ولكن أنس بن مالك والصّحابة <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">M</span> فرحوا بها رغم عملهم؛ وهذا يدلّ على أن الإنسان وإن كان عاملًا فإن أكثر ما يجب أن يرجوه الإنسان عند ربه هو حبّه لله ولرسوله ولمن سار على دربهم من أئمّة المسلمين. - يتبيّن لنا في هذا الحديث أنّ من يكون قدوةً في الدّين لا يُقصّر في محبّة قدوات له أيضًا ممن سبقه بالإيمان والعلم. - يلفت هذا الحديث الانتباه لمكانة [[أبي بكر]] و[[عمر]] عند الصّحابة رضوان الله عليهم أجمعين. ### 5. عن [[البراء بن عازب]] <span style="font-family: 'KFGQPC Arabic Symbols 01'; ">I</span> أن رسول الله ﷺ‎ قال: (الأنْصارُ لا يُحِبُّهُمْ إلَّا مُؤْمِنٌ، ولا يُبْغِضُهُمْ إلَّا مُنافِقٌ، فمَن أحَبَّهُمْ أحَبَّهُ اللَّهُ، ومَن أبْغَضَهُمْ أبْغَضَهُ اللَّهُ) - في هذا الحديث وفي حديث آخر جاء فيه (آية الإيمان حبّ الأنصار) شُمول لعامّة الأنصار وليس لأفراد معيّنين منهم. - سبب هذه المنزلة للأنصار هو نصرتهم لله تعالى ولرسوله ﷺ‎، وفي نصرتهم تلك شرف عظيم حتّى صارت لقبًا وتعريفًا لهم. - نفهم من الحديث أن مِن أَولى من يجب أن يُحبّ الإنسان مِن القدوات هُم من ينصرون الله ورسوله ﷺ بشكل عام، وخاصّة الأنصار من الصّحابة‎. فيصحّ (من باب الرّجاء، وليس فيه النصّ) قول أنّ مِن الإيمان أن يُحبّ الإنسان من ينصر الله ورسوله، وكذلك الخوف على من يُبغضهم.